بلوق الميز

موقع المغتربين العرب

الاعتذار الايطالي لليبيا نزع أكبر لغم من طريق المستقبل

لا يمثل الاستعمار كل التاريخ، بل هو مجرّد حقبة منه وحلقة من حلقاته لا تمثل قدرا محتوما يجب أن يحكم علاقات الشعوب بعد زواله، أي أن تجاوز تلك الحقبة بكل سيئاتها ومحنها أمر محتوم تفرضه ضرورة الاهتمام بالمستقبل.

بيد أن للتجاوز شروطه وأسسه التي يأتي في مقدمتها اعتراف المستعمِر بذنبه وبسؤوليته عما لحق بالشعوب المستعمرة من ظلم وأضرار جرّاء الاستعمار، لا لمجرّد الاعتذار ورفع العتب والملام لكن حتى تكون تلك التجربة المرّة غير قابلة للتكرار مستقبلا.

ويترتب على الاعتراف بالذنب بداهة الاعتذار والتعويض عما غنمه المستعمر وما نهبه من البلدان المسعمَرة من خيرات وحتى من تراث وتاريخ.

ولا يشترط أن يكون التعويض ماديا عينيا مجزيا بالضرورة بل توجد الكثير من الطرق في التعويض منها على سبيل التمثيل لا الحصر تقديم الخبرة والمساعدة التقنية لمستعمرات الأمس حتى تلحق بركب التقدم الذي فوّته عليها الاستعمار.

وإذ من المعهود أن تتمسك القوى والامبراطوريات الاستعمارية بالمكابرة وعدم الاعتراف بالذنب على غرار فرنسا التي ماتزال قوى نافذة فيها لا تكتفي بالتمسك بعدم الاعتذار لشعوب مستعمراتها التي أُخرجت منها عنوة، بل تتعدى ذلك إلى الثناء على المرحلة الاستعمارية وعدّها زورا مرحلة تمدينية لشعوب متخلّفة، فإن ليبيا ومستعمِرَها القديم إيطاليا أعطيا نموذجا عن إمكانية تجاوز جراحات الماضي الاستعماري باتجاه علاقة مستقبلية قوامها الندية والاحترام وتبادل المنافع، وعلى أساس اعتراف إيطاليا بالذنب وتقديم تعويضات مناسبة. وقد فتحا بذلك الباب أمام تصفية نهائية للعالق من الملفات الاستعمارية في المنطقة والعالم، وبيّنا أن ذلك ممكن شرط المرونة وزوال الأوهام والمكابرة. وهو الأمر الذي ألهب المطالبات باعتذار المستعمرين وفجّر بوجه فرنسا مجددا ملفات التجارب النووية في الصحراء الجزائرية كما أذكى مطالبة الجزائريين لباريس بالاعتذار لهم عن حقبة الاستعمار عموما.
وقد حمل الاعتذار الذي صدر بمنتهى الوضوح عن رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني وما انجرّ عنه من تفاهمات بين روما وطرابلس بشأن التعويضات العديد من الأوجه الإيجابية على الصعيدين الاعتباري والمادي. وغدت تلك الإيجابيات مادة للتفحّص لدى الكثير من الكتّاب والدارسين، واعتبر الكاتب السيد زهره أن فوائد الاتفاق التاريخي بين ليبيا وإيطاليا والذي وقّعه الزعيم الليبي معمر القذافي ورئيس الوزراء الايطالي برلسكوني والذي تضمن اعتذار ايطاليا عن حقبة الاستعمار ودفع تعويضات عنها يتجاوز الشعب الليبي ليشمل "كل الشعوب العربية والاسلامية التي عانت قهر وذل الاستعمار"، وإبرازا للجانب الاعتباري، عد السيد زهرة الاعتذار "قبل أي شيء رد اعتبار لمئات الآلاف من الشهداء الذين سقطوا، والذين تشردوا من مدنهم وقراهم، والالاف الذين تم نفيهم خارج وطنهم.. وهو رد اعتبار لشعب بأسره عانى القهر والظلم والعذاب في حقبة الاستعمار الايطالي السوداء". ورأى السيد زهرة أن قيمة الاتفاق "قيمة سياسية ومعنوية، وليست مادية ممثلة في التعويضات التي ستدفعها ايطاليا. ذلك ان أي تعويضات واي كم من الاموال لا يمكن ان تعوض دماء شهيد واحد او ليبي واحد نفي عن وطنه او طفل واحد او امرأة واحدة من الذين سقطوا في المذابح البشعة التي ارتكبها المستعمرون"، متسائلا "وهل يمكن لاموال العالم كله ان تكون تعويضا عن جريمة اعدام شيخ الشهداء المجاهد عمر المختار؟".
بيد أن الجوانب الاعتبارية في الاعتذار الإيطالي لليبيا لا تنفي وجود الكثير من المنافع المادية الواقعية ذات البعد المستقبلي التي يورد السيد زهره ذكر بعضها معتبرا أن "المصالح والمنافع المتبادلة موجودة في كل الاحوال، لكنها هذه المرة مبنية على حق وطني تاريخي انتزعته ليبيا، وعلى إصرار على أن تقوم أي مصالح على الاعتراف بالجرائم الاستعمارية والاعتذار عنها لفتح صفحة جديدة". وعد الكاتب أن "ليبيا بهذا الاتفاق، ارست سابقة سياسية وقانونية لها اهمية تاريخية كبرى بالنسبة لكل الدول العربية، وكل دول العالم الثالث التي خضعت للاستعمار.
بعبارة اخرى، بعد هذه السابقة، ليس هناك مبرر يدعو الدول العربية التي خضعت للاستعمار الى أن تتردد في أن تحذو حذو ليبيا وتصر على اعتذار الدول الاستعمارية وعلى الحصول على تعويضات عن حقبة الاستعمار.. فهذه السابقة الليبية سوف تكون خصوصا ذات أهمية كبرى بالنسبة للجزائر وشعبها. فمنذ سنوات طويلة تطالب الجزائر باعتذار فرنسي عن العهد الأسود للاستعمار والذي كان عهد ابادة ومذابح مروعة ومحاولات استئصال للهوية الوطنية، وسقط خلاله اكثر من مليون شهيد. لكن فرنسا التي مازالت تحرك قيادتها النوازع العنصرية المقيتة ترفض هذا الاعتذار. وبعد السابقة الليبية، لا شك ان الجزائر سوف تزداد اصرارا على انتزاع هذا الاعتذار، والمطالبة ايضا بتعويضات. والامر لا يتعلق بالطبع بالجزائر وحدها.. يتعلق بكل الدول العربية التي خضعت للاستعمار الغربي". وينتهي الكاتب إلى أن "هذا الاتفاق هو انجاز تاريخي حققته ليبيا، وكل الدول العربية التي خضعت للاستعمار ينبغي ان تستثمره، وان تصر على اعتذار الدول الاستعمارية وتعويض دولنا عن عهود الاستعمار وما سببته لنا من آلام ومآس". إلى ذلك اعتبرت الكاتبة الصحفية راضية الزيادي أن شيخ الشهداء عمر المختار قد انتصر بفعل الانجاز الذي حققته ليبيا بانتزاع اعتذار صريح من مستعمرها القديم "بعد 78 سنة من اعدامه، وكما قال لحظة تنفيذ الحكم الجائر فيه، فإن عمره كان أطول من عمر جلاديه. واعتذار ايطاليا رسميا عن سنوات وممارسات الاحتلال، ضد ليبيا والليبيين، طرح قضية اساسية، ستسهم تسويتها في اعطاء وجه جديد للعلاقة بين شعوب كان بينها، مستعمر جبار من ناحية، وضحايا لتلك الظاهرة الظالمة من ناحية اخرى"..
كما اعتبرت الصحفية ذاتها أن ايطاليا ليست "وحدها معنية بهذه الظاهرة، وان تشابهت الممارسات الاستعمارية، سواء جاءت في سياق احتلال فاشي ايطالي او نازي ألماني او فرنسي استيطاني.. او امريكي او اسرائيلي معاصر.. تتمسك شعوبنا التي خضعت لذلك الاحتلال، بضرورة رد الاعتبار والتعويض عن سنوات العذاب تلك، وعن المآسي التي عاشتها في ظل هذا الاحتلال.. ويستشعر الطرف المقابل حرج تلك الظاهرة وحرج ذلك الارث المشين، ليغطي عنه بالحديث عن "الدور الايجابي" للاستعمار، لتجنب الحكم السلبي الذي يرتبط بالموقف من هذه الظاهرة، كما حدث مع الفرنسيين الذين اتخذوا من ماضيهم الاستعماري، في بعض البلدان، مادة لتمجيد ذلك الماضي عبر قانون 23 فيفري 2005 الذي اطلق عليه الجزائريون قانون العار، وهددوا بالرد عليه بقانون يحرم الممارسة الاستعمارية، فالجزائر عانت في السابق من الممارسات الاستعمارية لما يزيد عن 130 سنة من الاحتلال، ويعاني الجزائريون اليوم من مخلفات ذلك الاحتلال، بل ان الاجيال الجزائرية محكومة بالمعاناة لالاف السنين الاخرى، بسبب التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية الكبرى"..
وتعتبر راضية الزيادي أن "العلاقة في المستقبل بين الطرفين، أي المستعمر من ناحية، والمستعمر، من ناحية اخرى، تتوقف على مدى نجاحهما في ايجاد نظرة موحدة لما جرى، معنويا، وتصفية ما بات عالقا، ماديا، حتى يكون بالامكان التقدم نحو الامام بثقة.
وما حدث بين ليبيا وايطاليا، بالاعتذار والاتفاق على التعويض، هو خطوة اساسية ينبغي الخوض فيها بشجاعة في مواضع اخرى.. ففرنسا التي ترفض اليوم الدعوات الجزائرية للاعتذار وللتعويض قبل التوقيع على معاهدة صداقة، هي أكثر من عَـمِـل على أن تعتذر المانيا وتعوض لليهود بسبب ما راج حول الممارسات النازية ضدهم في الحرب العالمية الثانية، وفرنسا هي اول من يطالب تركيا اليوم، بالاعتذار لما تقول انها مذابح استهدفت الارمن.. فحري اذن بمن يسعى الى احلال العدل، ان يبدأ بالاعتراف بما ارتكبته آلة الاستعمار التابعة له، في البلدان التي حلت بها".
وتخلص الكاتبة إلى أن "الاعتراف والاعتذار، والتعويض عن الماضي الاستعماري، هي غايات تدافع عنها الشعوب التي عانت جراء الاستعمار، ولكن ذلك هو ايضا درس اساسي لعلاقات الحاضر، حتى لا يتكرر الامر من جديد، وحتى لا تستعبد الشعوب الحرة مجددا".
وفي نطاق ملف خصصته ذات الصحفية للموضوع تحدث الكاتب والاعلامي الجزائري محمد عباس عن الإرث الاستعماري بين فرنسا والجزائر، وأشار الى انه وإن تمت تسوية عدة ملفات في هذا الارث، الا ان ملفات عديدة تنتظر الوقت المناسب لتفتح من قبل الدولة الجزائرية، معتبرا اعتذار ايطاليا عن استعمارها لليبيا سابقة سعيدة تندرج في سياق ثقافة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي من مبادئها الاعتذار ثم التعويض عن جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية التي ارتكبت خلالها.
ومن المفروض ان تصبح هذه السابقة قدوة حسنة لدول استعمارية أخرى مثل فرنسا وبريطانيا وغيرها.
وبخصوص شروط تصفية هذا الملف قال عباس إن فرنسا خلّفت تركة استعمارية ثقيلة جدّا، ويمكن القول ان الثورة الجزائرية تمكّنت من تصفية جزء هام من هذه التركة في انتظار ان تتولى الدولة الجزائرية بحث مخلفات هذه التركة مع نظيرتها الفرنسية حينما يحين الوقت المناسب. وتعكس الملفات العالقة في هذه التركة، الى حدّ ما طبيعة الاستعمار الفرنسي للجزائر فهذه الملفات ما كانت لتظل مفتوحة بعد 47 سنة من استقلال الجزائر، لو سارعت فرنسا بتحمّل مسؤولياتها مباشرة بعد استقلال الجزائر في معالجة مخلفات التجارب النووية في الصحراء الجزائرية، وتولت تفكيك حقول الألغام التي زرعتها على امتداد الحدود الشرقية والغربية لأنها أدرى بها أولا، ثم لأنها تعتبرها أسرارا عسكرية لا تريد الكشف عنها.. علما وأن بريطانيا قد فعلت ذلك على الحدود الليبية المصرية، غداة الحرب العالمية الثانية مباشرة.. وكذلك الشأن بالنسبة للأرشيف الجزائري الذي ما كانت فرنسا لتنقله الى ما وراء البحر في الفترة الانتقالية ما بين وقف القتال في 19 مارس 1962 وإعلان الاستقلال في 5 جويلية 1962.
وإجابة عن سؤال للصحفية راضية الزيادي عم إذا ما إذا كان التمسّك بالماضي قد يؤثر ويعطّل مصالح الحاضر، اعتبر الإعلامي الجزائري أن هناك حرصا مبكّرا من الجانبين الجزائري والفرنسي، على تحرير الحاضر من أسباب الماضي، وهذا الحرص ظهر مع الرئيس احمد بن بلاّ غداة الاستقلال ومايزال حاضرا في عهد الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، وليس أدلّ على ذلك من الحضور الفرنسي القوي بالجزائر خصوصا في مجالات اقتصادية.
ومن جانبه -وفي نطاق ذات الملف- اعتبر خليل الزميطي، أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية، انه من الطبيعي جدا ان تتمسك الشعوب التي تعرضت للاستعمار، بحقها في تصفية الارث الاستعماري بما في ذلك، الاعتذار والتعويض المالي، كما حدث بين ليبيا وايطاليا. واضاف قائلا انه من الطبيعي جدا، ان يتم التمسك بهذا الموقف، فاذا كان قدماء الجيش الفرنسي ممن قاموا بالتجربة النووية في الصحراء الجزائرية يقودون حملة منذ سنوات للمطالبة بالتعويض عن الاضرار التي لحقتهم، هل يمكن ألا نشجع الشعب الجزائري على المطالبة بالتعويض والاعتذار؟ مضيفا أن الاحتلال الذي تعرضت له عدة شعوب، وما نتج عنه من اضرار واستغلال، استمر لسنوات عديدة، يفترض ان تتم معالجته بشكل يضمن الاعتذار عما لحق الشعوب من مآس كما يفترض التعويض لها.
ويعتقد الأستاذ خليل بضرورة ان تتحرك كل الشعوب التي تعرضت للاستعمار لفتح هذا الملف، معتبرا أن هذا الحق غير قابل للنقاش، وعلى كل الشعوب التي تعرضت للاحتلال، بما في ذلك شعوبنا، ان تفرض الاعتذار لها والتعويض..
كما استجلت الصحفية راضية الزيادي رأي د.ميلود المهذبي الخبير الليبي في القانون الدولي والعلاقات الدولية، في موضوع الاعتذار الذي ذكر أنه من منظور القواعد التاريخية في علاقة المستعمر بالمستعمر، ومن منظور قواعد القانون الدولي، فإن اعتذار ايطاليا رسميا وفي ليبيا وبحضور ابن شيخ الشهداء عمر المختار ثم معانقة رئيس وزراء ايطاليا لابن شيخ الشهداء واعتذاره منه شخصيا، يعد سابقة بكل المعايير. أما الشق الثاني من الموضوع، فهو يتعلق بالتعويض المادي المقدر بمبالغ مالية ضخمة، فإن ذلك يعد تعويضا رمزيا، فالأموال، كل اموال العالم، لا تكفي للتعويض عن معاناة أي شعب تم احتلاله، ولكن لا يمكن اعادة التاريخ الى الوراء، فالتعويضات والاعتذار، تعبر عن نية لطي صفحة الماضي وبداية صفحة جديدة في العلاقات بين الدول خاصة وأن الشعبين الليبي والايطالي، قد صادقا معا من خلال المؤسسات السياسية والدستورية الايطالية والليبية، على معاهدة الصداقة التي تؤسس لفتح صفحة جديدة ما بين الشعبين.

المصدر : العرب اونلاين

×
لتصلك المعلومات

عند الاشتراك في المدونة ، سنرسل لك بريدًا إلكترونيًا عند وجود تحديثات جديدة على الموقع حتى لا تفوتك.

ليبيا تحاول جذب المزيد من المشروعات الاستثمارية فى...
إمكانيات اقتصادية ضخمة وسوق استثماري واعدة

مدونات ذات صلة

 

تعليقات

مسجّل مسبقاً؟ تسجيل الدخول هنا
لا تعليق على هذه المشاركة بعد. كن أول من يعلق.

By accepting you will be accessing a service provided by a third-party external to https://almaze.co.uk/