فـ"إسرائيل" دائماً وأبداً تعتمد على زرع الفتن وبث الفرقة والانقسام، وجعلها ركيزة أساسية في سياستها الخارجية في حربها ضد العرب، وكانت "الورقة المسيحية" أهم وسائل تلك السياسة، التي برزت بوضوح مع تولي الصهيوني المتطرف أفيجدور ليبرمان منصب وزير الخارجية في حكومة نتانياهو، وبدأت ملامحها في الظهور مع دعوة موريس صادق، الناشط القبطي المقيم بالولايات المتحدة الأمريكية، للأقباط المصريين بالتبرع بملايين الدولارات لـ "الصهيونية" لدعم أمنها وسياساتها كـ"دولة يهودية"، على أن يتم تقديم تلك التبرعات، والتي حدد قيمتها بـ3 ملايين دولار، لأفيجدور ليبرمان لتساعده في دعم "الصهيونية" وتحقيق حلم يهود العالم في استمرار وتقوية دولة الصهيونية "اليهودية".
نصارى متصهينين
وليس من المنطقي أن يقوم مسيحي مصري بهذه الخطوة دون دعم من جانب الأقباط داخل مصر، وهو ما يعكس تغلغل الفكر الصهيوني بينهم، رغم المعارضة الشكلية التي يبديها أحياناً شنودة رئيس الأقباط في مصر للكيان الصهيوني، وتحريمه الحج إلى القدس بتأشيرة دخول "الصهيونيةية".
ويبدو أن، صادق قد فضح ما يضمره بعض الأقباط المتصهينين ضد مصر، خاصة المقيمين منهم في المهجر بعدما أكد أن المسيحيين في مصر يشعرون بالتضامن والتأييد للجالية اليهودية التي لا تزال تعيش في مصر، مشيراً إلى إن الألم المشترك الذي يجمع الأقباط واليهود جعله يشعر ببالغ التعاطف والتأييد "لالصهيونية" التي تضم أشقاءنا من اليهود المصريين على حد قوله.
تلك السياسة الصهيونية التي تستخدم المسيحيين في الدول العربية ورقة مربحة في يد "الصهيونية" عبّر عنها، موشيه شاريت، رئيس وزراء الكيان الصهيوني عام 1954 في مذكراته "مخطط بن جوريون" عندما دعا لتحريك الأقليات المسيحية في العالم العربي ضد الأغلبيات المسلمة، وذلك لإذكاء النار في مشاعر الأقليات المسيحية في المنطقة، وتثبيت ميولها الانعزالية، لتدمير الاستقرار داخل المجتمعات العربية.
تحريض مخطط
فالرؤية الصهيونية للنصارى في العالم العربي لها دلالات وأبعاد سياسية، باتت نشعر بها بقوة في السنوات الأخيرة مع تغير ملامح الخريطة الجيو سياسية بمنطقة الشرق الأوسط، وبالأخص في السودان والعراق ولبنان وبطبيعة الحال في مصر، التي لازالت تعتبر العدو الأكبر "لالصهيونية"، رغم مرور نحو 33 عاماً على اتفاق السلام المزعوم بينهما. ولعل خير دليل على ذلك الانقسام الوشيك الذي ستشهده السودان، وإقامة دولة مسيحية في جنوبها، نتيجة للدعم والمساندة التي قدمها الكيان الصهيوني للمتمردين المسيحيين بالجنوب.
ومن أخطر التقارير العبرية التي رصدناها في الفترة الأخيرة، والتي تفضح بما لا يدع مجالاً للشك مخططات "الصهيونية" لتحريض المسيحيين في الدول العربية على الأنظمة الإسلامية الحاكمة والتمرد عليها، ليكونوا كلمة السر في تقسيمها وتشرذمها، تقرير صادر حديثاً عن المركز الأورشليمي للدراسات العامة والسياسية، والذي يضم نخبة من الباحثين الاستراتيجيين، أبرزهم تسيفى مزائيل، سفير دولة الاحتلال السابق بالقاهرة، والذي على دراية ومعرفة واسعة بأوضاع الأقباط في مصر، وبالتالي بأوضاع المسيحيين في باقي الدول العربية، والذي أفرد لهم تقريره الذي حمل عنوان "أزمة النصارى في الشرق الأوسط" ونُشر صور تفجير كنيسة الإسكندرية، زعم فيه أن المسيحيين في الدول العربية يعيشون بالفعل في الفترة الأخيرة محنة حقيقية، انعكست من خلال استهداف الكنائس في العراق ومصر، وقبل ذلك في لبنان، والتي تعبر عن تدهور الأوضاع بين المسلمين والمسيحيين في مختلف الأقطار العربية، ولعل خير دليل على ذلك مشروع القرار المطروح على البرلمان اللبناني الذي يدعو لحظر بيع أراضي النصارى للمسلمين، بزعم الحفاظ على تواجدهم في لبنان وخوفاً من أن يضطروا في نهاية المطاف إلى ترك البلاد، لعدم امتلاكهم لأراضي فيها.
أزمة في لبنان
وتابع التقرير الصهيوني أنه كما هو متوقع- وكما تأمله الصهيونية - أثار مشروع القانون هذا ردود فعل عنيفة، وزاد من التوتر السياسي القائم في لبنان، على خلفية اقتراب صدور القرار حول هوية مغتالي رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري.
وقد جاء طرح هذا القانون المشبوه ليزيد من الطين بلة في لبنان، التي تعاني هي الأخرى من الاحتقان الطائفي، كما هو الحال في مصر والعراق، وبخاصة في هذا التوقيت، ليكون فرصة ذهبية "لالصهيونية"، لإشعال الفتنة الداخلية، لكي تصرف أنظار اللبنانيين عنها، خاصة بعد اكتشافها لأكبر حقول الغاز الطبيعي الذي من المحتمل أن يكون داخل الأراضي اللبنانية. وهو ما يثبت رؤيتنا في استخدام الكيان الصهيوني للمسيحيين في الدول العربية كورقة لإثارة الفتن.
ومما يؤكد على ذلك دعوة الخبير الصهيوني من خلال تقريره المشبوه- وهو ما يكشف نوايا "الصهيونية" الحقيقية- إلى ضرورة اعتبار مشروع القانون اللبناني، الذي فرص تمريره في البرلمان ضئيلة للغاية، كنقطة انطلاق من خلالها تناقش أوضاع المسيحيين السيئة في الدول العربية واضطهادهم المزعوم على يد المسلمين. مروجاً لمزاعم بابا الفاتيكان بينديكتوس السادس عشر بشأن تضاؤل عدد المسيحيين في الدول العربية نتيجة لهذا الاضطهاد المزعوم، مشيراً إلى تزايد أعداد النصارى الذين هاجرو من لبنان وباقي الدول العربية على خلفية الضغوط المتزايدة عليهم من جانب المنظمات والحركات الإسلامية.
هجرة إلى الخارج
وتابع مزائيل تقريره بالقول :"إن التفجيرات الضخمة التي تعرضت لها الكنائس المسيحية في بغداد والإسكندرية هي أقوى العمليات التي تستهدف أماكن دينية في الشرق الأوسط منذ سنوات طويلة"، زاعماً أنه نتيجة للاضطهاد واستهدافهم المتواصل غادر عدد كبير من مسيحيي العراق بلاد الرافدين، وأيضاً المسيحيين داخل الأراضي الفلسطينية، لاسيما في قطاع غزة بعد هروب عدد كبير منها عقب سيطرة حماس على الأوضاع فيه.
كما تطرق الخبير الصهيوني لأوضاع المسيحيين في مصر، زاعماً بوجود هجرة كبيرة من جانب أقباط مصر لأوروبا وأمريكا خلال السنوات الأخيرة، نتيجة للعنف المتزايد ضدهم. ومؤخراً نتيجة لتهديدات تنظيم القاعدة وعناصر إسلامية لهم، التي تهدف في المقام الأول إلى خلق زعزعة في البلاد وحالة من الفوضى ليتسنى لهم السيطرة عليها، منتقداً في ختام تقريره الموقف الهزيل لأوروبا وبابا الفاتيكان حيال أتباعهم من المسيحيين في الشرق الأوسط، واصفاً رد فعلهم على ما يتعرضون له بالضعيف.
وزعم مزائيل أن الأقباط في مصر يعانون من اضطهاد شديد، متوقعاً أن عدد كبير سيغادرونها بعد حادث تفجير كنيسة الإسكندرية إذا سنحت لهم الفرصة، متجاهلين دعوة بابا الفاتيكان لهم بالصمود والبقاء في مصر، لكن توقعاتهم بتدهور الأوضاع في مصر تدفعهم أكثر للهروب منها.
أكاذيب صهيونية
ها هي "الصهيونية" تواصل بث سمومها علناً لتحقيق مخططاتها بإغراق العالم العربي في حالة من الفوضى، بواسطة افتعال الأزمات بين المسلمين والمسيحيين، وتصويرهم دوماً بأنهم أقلية منبوذة ومضطهدة، وفى هذا الإطار اتسم تناول الإعلام الصهيوني لملف المسيحيين في العام العربي عموماً، والأقباط في مصر على وجه الخصوص، بالطابع السلبي إذ ظل يردد دون توقف أقاويل عن وجود رغبة من قبل الأغلبية المسلمة بتهميش المسيحيين والقول بأنهم في طريقهم إلى زوال إذا لم يتم طرح قضيتهم بشكل فعَّال.
ونلاحظ أن الإعلام الصهيوني تعامل ملف الأقباط في مصر على سبيل المثال كنموذج من منطلق سعي "الصهيونية" لبث الفرقة والانقسام والفتن بين أبناء الوطن الواحد، وصورتهم بأنهم يتعرضون لمذابح وللقتل. وفى هذا السياق كتب الخبير الالصهيونيةي جاي باخور- الحاصل على درجة الدكتوراه في القانون المدني المصري- يقول في إحدى تقاريره المشبوهة بصحيفة يديعوت أحرونوت العبرية :"الأقباط المساكين في مصر حالهم كحال المارونيين في لبنان، وخطأهم الأكبر أنهم لم يطالبوا بإقامة دولة لهم، تكون لهم فيها الأغلبية، على عكس اليهود الذين أصروا على إقامة دولتهم لكي يظلوا قائمين إلى جانب المسلمين في الشرق الأوسط، فلولا تلك الدولة لما ظل اليهود قائمين إلى الآن، وأصبح وضعهم كوضع أقباط مصر الآن". فيما زعم يوحاي سيلع خبير الشؤون العربية أن مصر تشهد حالياً شبه حرب أهلية سرية، غير واضحة المعالم بين الأقباط والمسلمين، معللاً ذلك بقيام السلطات المصرية بتشديد الحراسة على الكنائس وتجمعات المسيحيين، خوفاً من قيام المسلمين بالإضرار بهم والذين يؤمنون بأن ليس للأقباط في مصر أي حق وإنهم لا يجب أن يعيشوا على أرضها. وأشار للأكاذيب التي تروج لها بعض مواقع الانترنت التابعة للأقباط المتصهينين على شبكة المعلومات الدولية قائلاً :"إنها تعكس صورة كئيبة للغاية لأوضاع الأقباط في مصر، منها تعرض فتيات قبطيات للاختطاف واغتصابهن وإجبارهن على اعتناق الإسلام، وإجبار التلاميذ المسيحيين على قراءة القرآن في المدارس من خلال مادة اللغة العربية، وأن المدارس المصرية ملحق بها مساجد ولا يوجد بها مكان واحد للطلاب والتلاميذ المسيحيين ليقيموا فيه شعائرهم الدينية".
هذه هي الصورة التي يروج لها الإعلام الصهيوني لتشويه صورة العرب والمسلمين أمام العالم، مستغلين النصارى في الدول العربية، وتصويرهم على أنهم طابور خامس، بهدف إشعال الفتنة بين مسلمي ونصارى القُطر العربي الواحد، ساعياً لطمس الوجه الحقيقي المتسامح للإسلام والمسلمين في تعاملهم مع أهل الكتاب، وبخاصة الأقباط، الذين يعيشون في آمان وسلام إلى جانب المسلمين في جميع الأقطار العربية.
على أية حال ستظل الأيادي الصهيونية تعبث في الدول العربية، التي يجب على أنظمتها الانتباه إلى أبعاد المخططات الصهيونية، فها هي السودان على وشك السقوط في براثن الانقسام والتفتت، وبات العالم على وشك استقبال دولة مسيحية جديدة في جنوبه على وفاق واتفاق مع الصهاينة في تل أبيب، فهل يمكن أن نرى صورة مكررة لهذا السيناريو المرتقب في جنوب مصر، ويصبح المسيحيين ورقة "الصهيونية" الرابحة في تقسيم وحدة أراضي الدول العربية.