بلوق الميز
يسألونك عن التوريث
أرأيت كيف هان أمرنا وخاب أملنا حتى صارت أوطاننا تركة تورّث، وأصبحت شعوبنا كتلاً آدمية مصلوبة على أوهام ووعود لم تتحقق.
(1)
حدثني صديق أنه حضر في الستينيات معسكراً لمنظمة الشباب أقيم في مدينة حلوان، وضم نخبة من طلاب الجامعات النابهين الذين ملأتهم أجواء ذلك الزمان بالثقة والطموح، وفي المحاضرات التي ألقيت عليهم وقتذاك رددوا على مسامعهم عدة مرات أن واحداً منهم سيكون رئيساً لجمهورية مصر في المستقبل. صدق صاحبنا الكلام، واقتنع بأن المستقبل مفتوح أمام ذلك الجيل.
وطوال السنوات الأربعين الماضية لم يتحقق شيء مما سمعه، ولكن ظلت أحلام جيله تتبخر واحداً تلو الآخر، وإذ جاوز الستين من العمر هذه الأيام، فإنه انتهى يائساً. وفاقداً الأمل في كل شيء، وغير قادر على أن يصدق ما يقال عن توريث السلطة في مصر.
في العدد الأخير من الطبعة العربية لمجلة " نيوزويك" (17/11) كتب أحد المثقفين اليمنيين يقول عن الرئيس علي عبدالله صالح إنه أمضى في موقعه 31 عاماً صادر خلالها أحلام الوطن وأباد كل أسباب وممكنات وجوده وتقدمه، وظل عائقا أمام قدرتنا على التفكير بما يمكن الوطن من استعادة أمله في أن ينهض من كبواته المستدامة وتعثره المزمن..
ولئن كان محور اهتمام القادة الحقيقيين في العالم هو الإنسان والوطن والتقدم، فإن محور اهتمام قائدنا هو العرش ونقله ميراثاً لأجياله. فسيج البلاد بكل أسباب انتقاله، ولغم معابر الوصول إليه بكل أشكال الفوضى، وإبداع صناعة الملهاة.
لا نحتاج إلى مزيد من الشواهد حتى ندلل على أن توريث السلطة أصبح بدعة هذا الزمان في الجمهوريات العربية، التي ظننا حيناً من الدهر أن انتقالها من النظام الملكي إلى الجمهوري هو خطوة إلى الأمام، لكنه ظن خيّبته تجربة الدول العربية الحديثة، التي أجهضت الآمال المبكرة التي علقت عليها، إذ أصبح التوريث حاصلاً أو وارداً في ست دول عربية، بعضها تم فيها ذلك بصورة رسمية، والبعض الآخر صار التوريث واقعاً فيه لكنه لم يستكمل شكله القانوني بعد، أما البعض الثالث فالتوريث في مرحلة الإعداد والترتيب.
(2 )
كانت سوريا سباقة في هذا الباب، فقد عدل دستورها وتم تخفيض شرط السن لتمكين بشار الأسد، الذي كان عمره وقتذاك 34 سنة، من شغل منصب رئيس الجمهورية وهو ما تم سنة 2000. وبعدما انفتح الباب طُرح بقوة اسم السيد جمال مبارك في مصر، الذي يتولى الآن أمانة السياسات في الحزب الوطني. وثمة شبه إجماع في الدوائر السياسية على أن الرئيس القادم لمصر، في انتخابات عام 2011 سيكون جمال مبارك (46 عاما) إذا لم يرشح الرئيس مبارك نفسه.
وترشيح مبارك الابن ليس آتياً من فراغ، ولكنه ينبني على شواهد عدة، أهمها أن تعديل المادة 76 من الدستور المتعلقة بالترشح للرئاسة في مصر، وضع شروطاً لا يمكن أن تنطبق إلا على مرشح الحزب الوطني. ومعلوم أن الحزب في ظل الأوضاع الراهنة لن يرشح للرئاسة غير أمين السياسات فيه، الذي يقوم الآن بدور لا يستهان به في صناعة القرار السياسي.
النموذج المصري تكرر في ليبيا بصورة نسبية، إذ مثلما برز دور جمال مبارك في المجال العام وانشئت له أمانة السياسات، لكي يتولى من خلالها توجيه مختلف مجالات الشأن الداخلي، فإن المهندس سيف الإسلام القذافي (37 سنة) بعدما قام بعدة أدوار في سياسة بلاده الداخلية والخارجية، عين أخيراً منسقاً عاماً للقيادات الشعبية، وهو أعلى منصب في السلطة بعد العقيد القذافي.
وقيل إنه كان ينبغي أن يتولى ذلك المنصب “لكي ينفذ مشروعه الإصلاحي لبناء ليبيا الغد”. الأمر الذي رشحه بصورة مباشرة لخلافة والده على رأس السلطة.
لم يعد سراً أن الترتيبات في اليمن تمضي في ذات الاتجاه، إذ يتردد بقوة اسم المقدم أحمد ابن الرئيس علي عبدالله صالح، باعتباره المرشح لخلافة والده، وهو يشغل الآن منصب قائد الحرس الجمهوري رغم أنه في العشرينات من عمره.
ولضمان ذلك فإن الأسرة تمسك بمفاتيح أجهزة الأمن في البلد. فعمار ابن عمه مسؤول عن الأمن القومي، وشقيقه يحيى الرجل القوي في وزارة الداخلية، والأخ غير الشقيق للرئيس علي محسن يقود الجيش في المناطق الشمالية.
“الطبخة” جارية على قدم وساق في تونس. ذلك ان الرئيس زين العابدين بن علي عدل دستور بلاده لكي يسمح له بالبقاء في السلطة مدى الحياة، في عودة لما كان عليه الحال في عهد الرئيس بورقيبة الذي أخذ عليه بن علي رئاسته المؤبدة وأعلن في عام 1987 أنها ستكون لمدتين فقط .
وبعد ذلك اتجه إلى ترتيب أمر خلافته، فدفع صهره وزوج ابنته محمد صخر الماطري (28 سنة) إلى الصف الأول من المشهد السياسي، حيث أصبح عضواً في اللجنة المركزية للحزب الدستوري الحاكم، ثم انتخب مؤخراً عضوًا في مجلس النواب. وهو في الوقت نفسه يدير امبراطورية مالية كبيرة تضخمت في عهد صهره.
إذ إضافة إلى تأسيسه إذاعة “الزيتونة” للقرآن الكريم، فإنه أسس الآن بنك الزيتونة، وله أسهم في بنك الجنوب، إضافة إلى استحواذه على 70% من أسهم دار الصباح، أعرق المؤسسات الصحافية في تونس. كما أنه يدير شركات عدة في مجالات الصناعات الدوائية والعقار والسياحة.
الأخ غير الشقيق للرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة يهيأ بدوره لخلافته، وهذا الأخ (سعيد) يشغل الآن منصب الطبيب الخاص للرئيس وكاتم أسراره، لذلك فإنه يلازم الرئيس عبدالعزيز في كل جولاته الخارجية. وقد أقدم مؤخرا على تقديم طلب لإنشاء حزب باسم التجمع من أجل الوفاق الوطني، يأمل أن يخوض به الانتخابات، ويفتح له باب تحقيق طموحاته السياسية.
(3)
هناك مدرستان في التوريث، بمعنى الاستمرار في احتكار السلطة وإبقائها في نطاق الأسرة، بما يحولها إلى ملكية مقنعة، مدرسة “الغلبة” التي تقوم على فرض الامر الواقع بقوة السلطة وأدواتها، ومدرسة اصطناع الشرعية.
والأخيرة أصبحت أكثر رواجاً، بعدما أصبح “المنظر” في الحالة الأولى مستهجنا في الأجواء الراهنة التي يروج فيها الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. ثم إن تطور أساليب الالتفاف والاحتيال على الشرعية، رجح كفة المدرسة الثانية.
إذ بات من اليسير تصعيد الوريث في مراتب السلطة مع إغلاق الأبواب في وجه أي منافس محتمل له، بحيث يصبح خيارا وحيدا يمكن دفعه إلى الصف بسهولة، بالقانون الذي يتم تفصيله ليناسب الحالة، ومن خلال المؤسسات “الشرعية” التي يجري اصطناعها.
من الحجج التي تساق لتبرير الانتقال وتغطيته أن الوريث مواطن عادي، له حق الترشيح كغيره من المواطنين، ولا ينبغي أن يحرم من هذا الحق" ويظلم " لمجرد أنه ابن الرئيس، أو عضو في أسرته.
وهو قول مردود بحجتين، الأولى أنه في كل أحواله لا يعامل باعتباره مواطناً عادياً، ولكنه يظل طوال حكم الأب مواطناً من الدرجة الأولى الممتازة، الذي يعمل له ألف حساب. فلا ترد له كلمة أو يرفض طلب. وفي حركاته وسكناته فإنه يعامل باعتباره مواطنا غير عادي. يتمتع بنفوذ وصلاحيات لا تتاح لأي شخصية سياسية أخرى.
الحجة الثانية أن ترشحه في وجود الرئيس أو استنادًا إلى بطانته مشوب بالبطلان من الناحية السياسية. والقياس هنا على ما هو وارد في القانون من ضمانات لضمان حيدة القاضي ونزاهته، ذلك أن المادة 146 من قانون المرافعات في مصر مثلا تنص على عدم صلاحية القاضي للسير في أي دعوى، إذا كانت له أو لزوجته أو لأحد أقاربه مصلحة فيها. وهذا البطلان يتحقق حتى ولو لم يتمسك به أحد.
فالمشرع هنا كان واعيا بأن أي صلة قرابة تربط القاضي بأي واحد له مصلحة في أي قضية تعرض عليه وقرر أن تلك الصلة تجعله غير صالح للنظر في الدعوى، لأن شبهة عدم الحياد قائمة في هذه الحالة. وإذا كان ذلك حاصلا في القضايا المدنية والجنائية مهما صغر شأنها، فأولى به أن يحدث في أمر يتعلق بمصير الوطن ومستقبله، الأمر الذي يعني أنه لا يجوز بأي معيار أن يترشح ابن للرئاسة أو لأي منصب رسمي آخر في ظل رئاسة الأب وهيمنته على أجهزة الدولة، لأن ذلك يخل بنزاهة الحكم واستقامته.
(4)
صحيح أن التوريث الذي يحول الجمهوريات إلى ملكيات مقنعة ليس حكراً علينا. لكنه حاصل في بلدان أخرى، في كوريا الشمالية وأذربيجان وكوبا وتاهيتي، وبعض الدول الإفريقية الأخرى. مع ذلك فالقاسم المشترك الأعظم بين كل تلك النماذج وبين الحالات المماثلة في بلادنا يتمثل في أنها دول غيبت الديمقراطية، ودمرت فيها مؤسسات المجتمع المدني. بما يعني أنه ما كان لتلك الدول ان تتجرأ على توريث السلطة فيها إلا أنها اطمأنت إلى إخصاء مجتمعاتها وإفقادها القدرة على إيقاف أو مقاومة نقله من هذا القبيل.
بكلام آخر فإن الدولة العربية الحديثة التي انتقلت بعد ذهاب الاستعمار من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري، حين عمدت نظمها إلى احتكار السلطة ومصادرة الديمقراطية، فإنها اضعفت مجتمعاتها وقامت بتفكيكها، حتى أعادتها إلى مرحلة القبيلة السابقة على فكرة الدولة بمفهومها الحديث.
أريد أن أقول إن السلطة المطلقة حين نجحت في إضعاف مجتمعاتنا وتفكيكها فإنها لم تجد عائقا يحول دون إدامة ذلك الاحتكار من خلال التوريث، الذي يمكنها من أن تضرب عصفورين بحجر واحد. فمن شأن ذلك أن يضمن لأهل الحكم الاستمتاع بمباهج السلطة والتقلب في نعيمها وجاهها، كما انه من ناحية ثانية، يضمن التغطية على المكاسب والثروات الهائلة التي تحصلت أثناء البقاء في السلطة، كما يضمن التغطية على الممارسات والتجاوزات التي ارتكبت في تلك الفترة.
على صعيد آخر، أزعم أن ذلك النزوع إلى التوريث يلقى ترحيباً وتشجيعاً من القوى الأجنبية المهيمنة في المنطقة العربية، والولايات المتحدة الأمريكية على رأسها. وعندي في ذلك أسباب وقرائن هي:
* إن هذه القوى أصبحت مطمئنة إلى أن الأوضاع الراهنة في العالم العربي تحقق لها مصالحها وتوفر لها وضعاً استراتيجياً مريحاً للغاية، ولذلك فإن استمرار تلك الأوضاع بأي صورة وبأي ثمن أصبح هدفاً غالياً يتعين الحفاظ عليه.
* إن المخططين في تلك الجهات بذلوا جهداً مشهوداً في رعاية وإعداد الأجيال الجديدة من الأبناء الذين تلقى أكثرهم تعليماً في الخارج، ولذلك فإن لديهم اطمئناناً كافياً إلى أن عناصر تلك الأجيال لن تكون أقل تجاوبا ووفاء إذ لم نكن أكثر من جيل الآباء.
* إن القوى الخارجية لم تعد مطمئنة إلى البدائل التي يمكن أن تصل إلى الحكم في العالم العربي إذا ما لم يتم التوريث وجرت انتخابات ديمقراطية. إذ هم يدركون جيدا أن الرأي العام العربي يملك الكثير من مشاعر الرفض والبغض للسياسة الأمريكية. والانتخابات الديمقراطية قد تأتي بمن يعبر عن تلك المشاعر.ومن ثم يهدد المصالح الأمريكية، وهو ما يمكن أن يحدث إذا ما أتت الانتخابات بعناصر وطنية، والخوف الأكبر أن ينجح أصحاب التوجه الإسلامي، كما حدث في غزة، وإزاء مخاطر من هذا القبيل فإن التوريث من وجهة نظرهم يصبح الحل.
(5)
من هذه الزاوية تبدو صورة المستقبل معتمة في العالم العربي، أقصد أشد قتامة مما هي عليه الآن. لكن سنن الكون تقول لنا إن الليل له نهاية وإنه لا توجد هناك غيوم أبدية، وذلك لا يطمئننا كثيراً لأننا ننتظر ذلك الوعد منذ عقود، ولكن أوان تحقيقه لم يحن بعد كما بدا، ثم إننا لا نعرف كم تكون التكلفة في هذه الحالة، لأن السنن لا تجرى بالمجان، وهناك أسباب ينبغي أن تتوافر أولا لكي تستجلب النتائج وتستدعيها، ومن الواضح أننا لم نأخذ بعد بما يكفي من الأسباب لكي تترتب النتائج المرجوة، والله أعلم.
فهمي هويدي
*جريدة الشروق
15/12/2009
عند الاشتراك في المدونة ، سنرسل لك بريدًا إلكترونيًا عند وجود تحديثات جديدة على الموقع حتى لا تفوتك.
By accepting you will be accessing a service provided by a third-party external to https://almaze.co.uk/
تعليقات