شكل الإنسان الأردني عبر مراحل تاريخية متلاحقة، حالة فريدة يعز نظيرها، وتفوق على الجغرافيا وقلة العدد، بالفعل المؤثر والحضور بشكل لافت على الساحة العربية، من الخليج إلى شواطئ الأطلسي البعيدة، فيكفي أن نذكر الدور الكبير الذي كان للقائد المسلم موسى بن صير الأردني، الذي أوصل الإسلام والعرب إلى شمال أفريقا واسبانيا، واقفاً مع قائده طارق بن زياد على أبواب فرنسا التي تمثل قلب
أوروبا، وكأن نجيب الحوراني – نجيب سعد البطاينة – اختار أن يسير على خطى ذاك القائد العظيم، وكأن التاريخ يعيد نفسه بصور مختلفة، مؤكداً أن هذه الأرض التي ارتبط اسمها بالبطولة والكرامة والشهادة، هي أرض الرباط منذ فجر الحضارة العربية، فلم يكن غريباً أن يكون أحد أبنائها وفي فترة تاريخية سابقة على تأسيس الدولة، يأخذه الواجب القومي إلى قطع مئات الكيلومترات، مجتازاً الصحراء الإفريقية الشاسعة، ليصبح أحد أبرز وألمع قادة المقاومة الليبية ضد الاستعمار الإيطالي الذي عرف بالدموية، وقدرته غير البشرية في سفك الدماء والبطش بكل من يقف في طريق أطماعه وطموحاته.
يعد نجيب سعد البطاينة أبن مرحلته بامتياز، فلقد ولد في بلدة (البارحة) شمال الأردن، وهي بلدة ناشطة ليست ببعيدة عن مدينة اربد، وكانت مدن وبلدات الشمال الأردني، تتبع إدارياً لقائمقامية جبل عجلون، وقد كانت ولادته في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وكان والده سعد البطاينة، شيخاً وزعيماً عشائرياً معروفاً، له مكانة مرموقة في الأردن وبلدات حوران جنوب دمشق، وقد عرف الشيخ سعد البطاينة بمواقفه القومية، ومساندته للثورة السورية ضد الفرنسيين، وخاصة ثورة جبل العرب وحوران، ولاشك أن التنشئة القومية التي حظي بها نجيب، والتي رافقت التغييرات الجذرية التي حرفت نهج الدولة العثمانية، وحولتها إلى دولة عنصرية، وضيق العرب بذلك، كان لها أثرها عليه، فلما اشتد عوده، وتمكن من الحصول على بعض التعليم المدرسي الذي لم يكن ميسراً حينها، راوده حلم جاوز مداه حدود المكان المحيط به، لذا فقد شد الرحال صوب عاصمة الإمبراطورية العثمانية الأستانة – اسطنبول- وهو في بواكير الشباب، وهناك تمكن من دخول مدرسة « العشائر» كما يذكر ذلك يعقوب العودات في كتابه «القافلة المنسية».
وكانت هذه المدرسة تضم مجموعة من الشباب العرب، الذين تجمعوا في العاصمة، من أجل الحصول على فرصة أفضل في تلقي العلم، حيث كانت اللغة التركية العثمانية هي السائدة، ومدرسة «العشائر» هي مدرسة عسكرية لا تكلف الطلبة العرب أي نفقات مالية، في مرحلة كانت الدولة بحاجة لتجنيد أكبر عدد ممكن من الرعايا العرب، لتلبية طلبات جبهات القتال المشتعلة، وبعد مضي ست سنوات تخرج نجيب برتبة ملازم ثان، وبالتالي أصبح أحد ضباط الجيش العثماني، فأرسل للخدمة في الجيش المرابط في دمشق، وكان ضابطاً مميزاً، عرف بالالتزام، والتخطيط النوعي، والقدرة على القيادة، لذا فقد تدرج في الرتب العسكرية حتى وصل إلى منصب قائد قوات الهجانة، التي اتخذت من العقبة مقراً لها، وكانت أطراف الدولة العثمانية مطمع للدولة الاستعمارية، وقد اجتاحت القوات الإيطالية ليبيا، التي تعد تابعة للسيطرة العثمانية، وإن كانت هذه السيطرة من الضعف حتى أصبحت شكلية، وهنا يبادر الشاب الذي تربى على حب الفداء والدفاع عن الوطن العربي، مهما كان قربه أو بعده عن مسقط رأسه، فيقرر التطوع ضمن الجيش العثماني، الذي خاض حرب الدفاع عن طرابلس الليبية، لذا وجد نجيب الملقب من قبل الليبيين بنجيب الحوراني، وجد نفسه في عجاج المعارك الطاحنة، في قلب الصحراء الأفريقية الكبرى.
بعد تفوق الإيطاليين على الجيش العثماني وخروجه من المعادلة، أنظم إلى صفوف المقاومة الليبية الشعبية، التي أسسها وقادها السنوسيين، وهم أصحاب طريقة صوفية، كان لهم دور نضالي وسياسي مؤثر في ليبيا لفترة طويلة، ولم تمض سوى فترة وجيزة حتى لمع اسم نجيب الحوراني، كأحد أهم قادة المقاومة الميدانيين، حيث تميز بالشجاعة والإقدام، والجلد على مقارعة عدو لا يعرف الرحمة، من معركة إلى أخرى وبشكل متواصل، وقد تناقل الناس بطولاته في طول البلاد وعرضها، وتجاوزت شهرته الآفاق في فترة وجيزة، وقد أحبه الليبيين وتعلقوا به، فقد كان قائداً محنكاً، ومقاتلاً لا تلين قناه، وتقياً ورعاً، فعاملوه معاملة الابن، وحرصوا عليه حرصهم على قادتهم الليبيين، فتزوج بفتاة ليبية سنوسية، تدعى فايزة عبد الله السنوسي، وكان شقيقاها يقتلان إلى جانبه ضد المستعمرين، ونظراً إلى إخلاصه العميق للقتال والدفاع عن الأمة والأرض، فقد قرر العودة إلى الأردن مصطحباً زوجته الليبية، فأودعها أهله في البارحة، وعاد إلى ميدان المعارك الطاحنة في ليبيا، وهو في الأشهر الأولى من زواجه.
كان الجيش الإيطالي الجرار، والمدجج بالأسلحة الحديثة والفتاكة يتقدم ببطء شديد نحو الجنوب، بسبب ضراوة المقاومة، وتكبيدها له خسائر لا تحتمل في الأرواح والعتاد، لكن العنجهية الفاشية تدفعه بإصرار لسحق هذه المقاومة الصلبة، وكان نجيب الحوراني يقاتل إلى جانب قائد المقاومة الليبية الشهير أحمد الشريف، فقد جمعت بين المناضلين صداقة عميقة، فقاتلا جنباً إلى جنب، وواجها الموت غير مرة معاً، وكل ذلك عزز مكانته عند الشعب الليبي، وقد خاض نجيب الحوراني عدداً كبيراً من المعارك الحاسمة، ففي معركة «الشلظمية» التي وقعت في 28 شباط من عام 1914م، كان نجيب قائدها الذي يتقدم المقاومين، وقد جرح في هذه المعركة التي تكبد فيها الجيش الإيطالي أكثر من ثلاثمائة قتيل، وقد استشهد قرابة (200) شهيد من المقاومين، ورغم الجرح الذي أصابه، كان الحوراني أبن «البارحة»، يستعد لخوض معركة «الكردايسي» التي جرت في اليوم التالي مباشرة، حيث يذكر المجاهد شكيب أرسلان، أن هذه المعركة لم تقل شأناً عن سابقتها، وقد أبلت فيها المقاومة بلاً حسناً كعادتها، ووصف أسلوب نجيب البطاينة، بالكر والفر الذي مكنه من الوصول إلى كبار ضباط الجيش الإيطالي، فقتل عدداً منهم وصل إلى سبعة ضباط من أصحاب الرتب الكبيرة، وخلال هذه المعركة دمرت المقاومة كمية كبيرة من أسلحة العدو وذخيرته، وأحرقت عدداً من سيارات التموين والإمداد والمستلزمات الصحية، وقد جرح نجيب في هذه المعركة للمرة الثانية في كتفه وساقه، وذكر أنه أخرج الرصاصة من ساقه اليسرى دون مساعدة أحد، واستمر بالقتال، حتى أجبر القوات الإيطالية على الانسحاب من أرض المعركة.
كانت المقاومة تنتقل من معركة إلى أخرى، وتعيد ترتيب صفوفها من جديد، فجاءت معركة «مسوس» إحدى المعارك الحاسمة، ففي مسوس مقر قيادة أحمد الشريف، وفيها زاوية سنوسية، ورغب المستعمر الثأر لخسائره في معركة «سيدي كريك القرباع» التي خسر فيها (72) جندياً، وتم أسر (400) من جنوده بيد المقاومة، حيث استولى رجال المقاومة على قرابة الألف بندقية، لذا أعد العدة وجيش الجيوش من أجل معركة مسوس، التي وقعت في صباح يوم الثالث من آذار عام 1914م، لقد كان واضحاً شراسة القوات المهاجمة، التي بدأت بتدمير كل شيء، فدمت الزاوية في مسوس، وقد قاتل المقاومون ببسالة لا نظير لها، وقتلوا العشرات من الإيطاليين، لكن الجيش الإيطالي الجرار فتك بجيش المقاومة الشعبية، وقتل عدداً كبيراً منهم، واستشهد شقيق زوجة نجيب «المهدي» ومن ثم تلاه شقيقها الثاني «السنوسي» وكان رحى المعركة الطاحنة يدور، فأصيب نجيب سعد البطاينة برصاصتين، إحداهما في صدره والثانية في الفخذ، وكانت إصابات خطرة، فأخرج من أرض المعركة إلى منزله للعلاج، ولكنه إصابته هذه المرة كانت قاتلة، فلقد فارق الحياة في اليوم التالي، وقد عم الأرض الليبية حزن شديد، وبكاه الرجال، وبكته النسوة، حتى صار الحزن على فقده مضرب المثل حتى اليوم.
وظل القائد أحمد الشريف يذكره ويترحم عليه، وهو معتصم بالجبل الأخضر، وحتى وهو في منفاه في الحجاز حتى وفاته، ومازال ذكره حاضراً في ليبيا حتى اليوم، ويتم إحياء ذكراه كل عام، ويزور قبره في مسوس أناس كثر، وقد أطلقت الجماهيرية أسمه على عدد من الشوارع في المدن المختلفة، وذكره الرئيس معمر القذافي غير مرة في مناسبات مختلفة، أنه بحق أبن الأردن، التي تقدمت الرجال تلو الرجال، هاجسها حرية العرب واستقلالهم، رغم صغر مساحتها وقلة إمكانيتها، ولن تغب عن ذاكرة أحرار العرب، صورة المناضل العربي الكبير نجيب سعد البطاينة (نجيب الحوراني) فهو دليل على ما تملكه هذه الأمة العظيمة، من أسباب إعادة الأمجاد وقيادة الحضارة الإنسانية من جديد.
المصدر :جريدة الرأي