منذ أكثر من عشر سنوات وبحكم العمل كنت أتردد على دولة الإمارات وكانت أول زيارة لي لهذه الدولة في عام 1995 لحضور أحد المؤتمرات المنظمة من قبل مركز أبو ظبي للدراسات الإستراتيجية، وبالتالي تابعت عن قرب التقدم المادي الذي حدث في هذا القطر العربي الذى استطاع أن يقدم للعالم مدينة عصرية بامتياز "دبي".
لا تستغرب إذا قلت إنه في كل عام بل في كل شهر يوجد تطور وتغير ملحوظ في أعمال الإنشاءات والبنية التحتية خاصة الطرق والمواصلات ومرافق الخدمات المختلفة من فنادق ومطاعم ومكتبات ومراكز ثقافية ومراكز ترفيهية تأهيلية للأطفال والشباب ومصحات ومدارس ومعاهد متخصصة مرتبطة بأجود وأفضل المعاهد العالمية وترى قمة الاهتمام بإنشاء مدن متخصصة تعتبر من أحياء دبي المهمة مثل مدينة دبي للإنترنت ومدينة دبي للإعلام ومدينة دبي الصحية التي ذكرتني بالمنطقة الصحية بـ"هوستن" في أمريكا، وأخيرًا كان الإنجاز الضخم "مترو دبي" الذي بحق تفوق باقتدار تصميمًا وتنفيذًا وإدارة على أي مترو في العواصم الأوروبية. وفى أبو ظبي عاصمة الدولة تجد دواوين ومقار الوزارات المختلفة تقدم خدماتها للمواطنين والمقيمين بكفاءة عالية وأسلوب متحضر راقٍ بعد إدخال نظام الحكومة الألكترونية، فالمواطن يمكن له أن يجدد جوازه ورخصة عمله ورخصة قيادته وغير ذلك من الأمور عن طريق الإنترنت ويرسل له ما يطلبه بالبريد حتى مقر سكنه في مدة لا تتجاوز أسبوع من تقديمه للطلب ودفعه للرسوم المستحقة التي يمكن له أن يدفعها عن طريق النت أو بالتحويل من حسابه البنكي. وفى الشارقة تجد الاهتمام الكامل بقضايا الأدب والفن والمسرح والثقافة العربية وتبرز الشارقة بحق كمدينة تقدم في كل عام الجديد للثقافة والمثقفين العرب. والحديث في الحقيقة يطول حول دولة الإمارات، ولقد رأيت من خلال هذه المقدمة أن أطرح بعض الملاحظات الهامة وعلى القارئ الفاضل أن يجرى المقارنات بين ما يحدث في هذه الدولة وما يحدث في بلاده مع الأخذ في الاعتبار الفوارق المادية والبشرية ونظام الحكم. الملاحظة الأولى: عدد سكان الإمارات 4.488.000 مليون نسمة ويزيد دخل الفرد فيها على 30 ألف دولار وقد حباها المولى عز وجل مثلها مثل الكثير من دولنا العربية بثروة نفطية هائلة ولكنها تختلف عن بقية الدول النفطية العربية بأن الله سبحان وتعالى قد حباها أيضا بقائد حكيم هو باني نهضتها رحمه الله الشيخ "زايد الخير" كما يطلق عليه الإمارتيون. وأعتقد جازمًا أنه الزعيم العربي الوحيد الذي افتقده شعبه بحق بعد وفاته، وأن ناسه في معظمهم كانوا يحبونه ويقدرونه، وهو فعلا كان اشتراكيًا حقيقيًا لأنه استطاع أن يحقق الرفاهية للجميع والمساواة للجميع في الفرص أما الفوارق في الجهد فهذه نتاج للمبادرات الفردية، فقد استطاع زايد الخير أن يقدم دولة بمدن وخدمات حضارية ويركز على تجارة العبور والمناطق الحرة بدون أن يدخل في مجازفات صناعية كبيرة أو زراعية أو يرفع شعارات رنانة حيث كان هو وحكومته يعملون في صمت ويحققون في كل شهر وعام إنجازا لشعبهم. وكان منظور سياسته وكذلك حكام الإمارات الأخرى ومنهم آل مكتوم حكام دبي بسيط ومنطلق من مثل مصري معروف "إدي العيش لخبازه"، فكانوا دائمًا عندما يرغبون في التخطيط لعمل أو إنشاء مشروع يبحثون عالميًا عن أحسن من يقوم به ويستدعونهم ويفاضلون بينهم ويحرصون على تقديم العون والمساعدة بدون استغلال ورشاوى، ومن هذا المنطلق استطاعوا أن يصلوا ببلادهم لما وصلوا إليه. ففي برامج التخطيط كانت لديهم مجموعة من أفضل مكاتب العالم المتخصصة في التخطيط الاقتصادي والاجتماعي والإنشائي، تخطيط المدن، ووضعوا الخطط الخمسية والعشرية، ولهم برنامج واضح يعرفون فيه ما سيقومون به حتى عام 2030. واعتمدوا في برنامجهم الاقتصادي على الاقتصاد الحر مع تفرغ إدارات الدولة للتراخيص والمراقبة بصرامة حفاظًا على عدم استغلال المواطن من قبل أصحاب النفوس الضعيفة.. ولتعلم أخي القارئ أن بالإمارات جمعيات استهلاكية معدة على أحدث طراز عصري متطور للأسواق وبها كافة احتياجات المواطن من مأكل وملبس وأثاث وأدوات منزلية وأسواق، هذه الجمعيات منتشرة في كل الأحياء ويدخل للشراء منها جميع المواطنين والمقيمين غير أنه عندما تقف إمام الخزينة للدفع فإن المواطن الإماراتي يبرز بطاقته الصادرة من الجمعية فيحصل على تخفيض أكثر من 50%، أما غير الإماراتيين فيدفعون الأسعار كما هي، وبالتالي فإنهم يعوضون الدعم على السلع للمواطنين من خلال القيمة الفعلية التي يدفعها غير المقيمين وهم أغلبية قياسًا بعدد السكان فهم يمثلون 80% من إجمالي القاطنين في هذه الدولة. الملاحظة الثانية: كنت ومازلت أحد الناقدين لوجود العمالة الأجنبية في الخليج العربي، وتحدثت في السابق أمام كبار مسئولي تلك الدول وفى المؤتمرات والاجتماعات الخاصة بوزراء العمل في دول مجلس التعاون الخليجي حول ضرورة أن تعطى الأولوية للعمالة العربية وأن الحجم المخيف لهذه العمالة يهدد البناء الاجتماعي لمجتمعات تلك الدول فتصوروا معي لو صدرت وثيقة دولية تعتبر المهاجر لأكثر من عشر سنوات مواطنًا وتلزم دولة المهجر أن تمنحه الجنسية وحق المواطنة، فماذا سيحدث للتركيبة الاجتماعية العربية للمجتمع الإماراتي على سبيل المثال. صحيح أنها فعلاً مشكلة حقيقية تقوم الآن الحكومات بمحاولات مدروسة لحلها تدريجيًا ولكن هل لو الخليجيون- وأولهم الإماراتيون- نفذوا رأينا بتشغيل العمالة العربية يستطيعون أن ينفذوا مشاريعهم الإنشائية الضخمة بكل هذه الدقة والإتقان، وهل يستطيعون أن يديروها بنفس المستوى الحالي الذي يحافظ عليها ويبرمج صيانتها بصورة دورية منظمة، وهل العامل العربي والإدارة العربية قادرة على ذلك؟! للأسف العمالة العربية على مستوى متدنٍ إلى أبعد حد من التدريب والتعليم الفني إذا ما قورنت بالعمالة الأسيوية، فما بالك العمالة الأوروبية إضافة إلى ابتعاد الأسرة والمراكز التدريبية على غرس مبادئ وسلوكيات المصداقية والإتقان وحب العمل والانضباط فيه والاجتهاد والإبداع مع الإلمام بكل هذه الأسس التي استطاعت المراكز الأسيوية أن تغرسها في شبابها وأن تدربهم التدريب المتخصص الدقيق عن طريق أرقى الوسائل وأحدثها. الملاحظة الثالثة: رغم تواجد كل الجنسيات في دولة الإمارات ورغم وجود مذاهبها ودياناتها المختلفة ولكنك تجد الشارع أمني ومنضبط إلى أبعد حد ممكن، والسير بالمركبات والمشاة مرتب ترتيبًا علميًا دقيقًا، والكل ملتزم بالنظام مواطن أو مقيم في مستوى رائع ومتقدم يرقى إلى مصاف أكثر درجات المدن العالمية السويسرية والسويدية المشهورة بحسن نظام المرور. والملفت أيضا للانتباه أن الأمن يهتم بالدرجة الأولى بأمن المواطن وأسرته ولا يوجد تساهل مع المخالفين، والعقوبات تنفذ في وقت قياسي وإجراءات النيابات والمحاكم فورية واستعانة الأجهزة الأمنية بأحدث الوسائل والأدوات العلمية الحديثة، وأرسلت أبناءها للتدريب عليها فأصبحوا يتقنون التعامل معها بكل دقة ومهارة، ولعل حادثة اغتيال الممثلة اللبنانية سوزان تميم وكذلك محمود المبحوح أحد مناضلي حركة حماس أخيرًا لخير دليل على ذلك التقدم الذي توصلت إليه الشرطة الإماراتية في حماية المواطن والمقيم والزائر لهذا البلد الآمن بحق. الملاحظة الرابعة: نجح القطاع الخاص الإماراتي والمستثمرين الأجانب المشاركين معه في أن يسهم بصورة مباشرة في النهضة المعمارية والخدمية في مجالات التعليم والصحة والتجارة والصناعات التحويلية والدوائية ونتج عن هذا التطور في الإنشاءات ومرافق الخدمات الرقي بالذوق العام عند المواطنين ومع المعاشرة تعلموا كيف يتعاملون مع هذه المرافق الحديثة وأصبحت المرأة الإماراتية على سبيل المثال حتى كبيرة السن تتعامل مع ماكينات الصرافة وتسحب نقودها منها ببطاقتها الائتمانية وتسدد فواتيرها من خلال هذه الأجهزة، إذن فالتطور المادي إلى الأحسن يفرض على المواطنين التكيف معه ويلتزمون بسلوكياته التي وضعتها الإدارات المسئولة التي ساهمت بنشر الوعي للمواطن بكل الوسائل الإرشادية، ومع مرور السنين نشأ جيل حضاري في تعامله مع هذه المرافق ومع المترددين عليها عند تواجده فيها. هذا شيء بَدَهي يحدث حتى في الحالات العكسية، فعندما تنتشر سلوكيات النصب والاحتيال وترمي أمام المواطنين في الأسواق بالأعياد أكياسًا من الملابس بدون أي فرصة للاختيار فحتما سينشأ عن ذلك سلوك اجتماعي غير سوي، وسنجد أنفسنا أمام جيل تعلم غصبا عنه ضرورة أن يتحايل من أجل الحصول على حاجته ولا مانع لديه من التطاول على حاجات الآخرين! هذه ملاحظات أساسية، وهناك الكثير ولكني اختصرتها في المفيد، غير أنني أقول إنني أتمنى أن تبدأ دول الخليج عامة فى الإسهام مع الدول العربية الأخرى التى بها عمالة عاطلة عن العمل ولعل أقربهم جغرافيا دولة اليمن بوضع برامج لمساعدة هذه الدول في تدريب وتأهيل أبنائها بالشكل الجيد، مستعينين في ذلك بتجربة اليابان والفلبين وكوريا، والعمل بعد ذلك على ضخ استثمارات عربية في هذه الدول لفتح فرص عمل لهؤلاء الشباب إلى جانب وضع المخططات اللازمة لإحلال العمال العرب المؤهلين تدريجيا بدلا من الأجانب حفاظًا على الهوية العربية لهذه الأرض الطيبة. ورغم أن ظاهرة الفساد أقل انتشارًا في دول الخليج العربي، ولكن بدأت تظهر بعض المؤشرات التي توحي بانتشار هذا الداء المقيت في بعضها مما يتطلب من الحكومات العمل بجدية على إنشاء الأجهزة الكفيلة بالحد من هذه الظاهرة وهي في بداية انتشارها، فكم أزعجني كثيرًا روايات بعض المستثمرين الخليجيين الراغبين في الاستثمار في ليبيا وبعض الدول العربية الأخرى وهم يروُون لي ما يطلبه المسئولون من رشاوى وعمولات للحصول على التسهيلات اللازمة للاستثمار، مما جعلهم يغضون الطرف عن الاستثمار في مثل هذه الدول. وختامًا أقول: إننى أحيي بصدق حركة الصحافة في كل دول الخليج العربي خاصة في الإمارات وقطر والكويت لاهتمامهم الكبير بقضايا مجتمعاتهم ونشر الوعي بين أفراد المجتمع. أعلم أن البعض سيقول لي: أين الديمقراطية والحرية في هذه الدول؟! والرد بسيط أين هي حتى في الدول العربية الأخرى التي تدّعي الحرية والديمقراطية، على الأقل هؤلاء صادقون مع أنفسهم ومع شعوبهم ولا يقولون عكس ما يفعلون.
المصدر : صحيفة الوطن الليبية