لم تمض أسابيع قليلة على فتح السوق الصحفية الليبية أمام المطبوعات العربية والأجنبية، مما شكل خطوة انفتاح لافتة، حتى أتى إجراء مفاجئ أعاد البلد سنوات إلى الوراء بتأميم وسائل الإعلام المحلية القليلة التي لم تكن تخضع للقطاع العام، واستطرادا للجان الشعبية.
واعتبر مراقبون في ليبيا أن هذا التأميم الذي أعلنه "القائد" القذافي ضربة للتيار الإصلاحي الذي كان يرمز إليه نجله بتقويض المنصة الإعلامية التي كانت تجعل صوته أرفع من أصوات عناصر "النومنكلاتورا" الماسكة بالأجهزة الأمنية وبغالبية الدواليب الحكومية.
وكان سيف الإسلام الذي يرأس مؤسسة خيرية تحمل اسم والده، انتقد في كلمة ألقاها في صيف 2007 (أي قبيل إطلاق مجموعته الإعلامية "الغد" في اجتماع شبابي في سيرت (400 كلم شرق العاصمة طرابلس) ما اعتبره "التفافا على النظام الديمقراطي" نافيا أن تكون ليبيا "تحت سلطة الشعب"، خلافا لما دأب والده على إعلانه في خطبه منذ إرساء "النظام الجماهيري" في ليبيا سنة 1976.
وذهب الإبن إلى حد انتقاد سجن المعارضين و"بهدلة" المخالفين في الرأي باسم الشعب، وغياب حرية الإعلام، بل أكد أن " الصحافة معدومة في ليبيا أصلا، إذ هي لا تعني شيئا عندما يسيطر عليها أربعة صحف باهتة وركيكة يكتب فيها عدد محدود من الأشخاص".
على هذا الأساس ركز سيف الإسلام في الفترة الأولى من بروزه على مسرح السياسة الليبية، من خلال اللقاءات التي أجراها مع الأميركيين والأوروبيين، على إنشاء مشروع إعلامي يعكس دوره المتنامي في السياسة الليبية (قبل أن يُجرده اللاعب الأكبر من هذا الدور) ويكون مثالا على طريق الإصلاحات التي كان يعتزم دفع البلد نحوها.
ويمكن القول إن "مؤسسة الغد" الإعلامية AL-Ghad Media التي يقودها عبد السلام المشري استطاعت أن تنقل الإعلام المحلي من عهد التصحر إلى مرحلة المهنية. واعتمدت المجموعة على مطبعة حديثة خاصة بها وشركة توزيع وطواقم من المهنيين، بينما اختار المشرفون على قناة "الليبية" منهجا إعلاميا مختلفا عن القناة الرسمية ذات اللون "الجماهيري". وفي هذا السياق تكفلت شركة التوزيع بترويج الصحف والمجلات العربية والأجنبية التي ظلت محجوبة عن القارئ الليبي طيلة أربعين عاما اعتبارا من مساء 23 فبراير الماضي.
وكان سيف الإسلام يُشدد على ضرورة الإنفتاح الإقتصادي متعمدا مهاجمة البيروقراطية الحزبية والإدارية التي تشكل معاقل المعارضة للإصلاحات والتي سبق أن أطاحت برئيس الوزراء المقرب منه شكري غانم.
طرق ملتوية
وواجهت صحيفتا "أويا" التي تولى رئاسة تحريرها محمود البوسيفي، وزميلتها "قورينا" التي عُين على رأسها رمضان البريكي، محاصرة من أوساط المتشددين، بينما كانتا تقطعان خطواتهما الأولى، إذ حاولوا إعاقة توزيعهما بطرق ملتوية. ونشرت الأولى لدى الإحتفال بإصدار العدد 500 منها تحقيقا مع أصحاب الأكشاك أكد فيه غالبيتهم أن الصحيفة كانت تصلهم بكميات قليلة وتتأخر أحيانا يوما كاملا مما يجعل القارئ يُعرض عن طلبها.
وفي هذا السياق قال المُوزع عبد الرحمن الغناي، وهو صاحب كشك بشارع المقريف أحد الشوارع الرئيسية في وسط طرابلس، لمندوب "أويا" عندما سأله في إطار التحقيق الذي قام به "من المشاكل التي تواجهنا بخصوص الصحف المحلية هي أننا عندما نطلب كمية معينة منها، لا تصلنا كاملة (وخص بالذكر صحيفة أويا")، وعندما نستفسر منهم عن السبب تكون إجابتهم بأن الكمية لا تغطي حاجة مراكز التوزيع..". وشكا آخرون من أن تأخير وصولها يضطر الجهات العامة (المؤسسات الرسمية) لسحب اشتراكهم مع الموزع.
مع ذلك أكد باعة آخرون شملهم الإستطلاع أن الصحيفة تنفد منذ الصباح الباكر، وهذا ما لا يمكن أن ينطبق على صحف القطاع العمومي مثل "الجماهيرية" و"الزحف الأخضر" و"الشمس". كما أفادوا أيضا أن الطلب يتضاعف في الأيام التي تجري فيها مباريات كرة قدم، أما في الأيام الأخرى فتصل المُرتجعات أحيانا إلى 10 في المئة، وهي نسبة ضئيلة قياسا على المتوسط المتعارف عليه في الصحف.
ويمكن القول إن العناصر الخائفة من الإنفتاح، والتي وصفها سيف الإسلام نفسه بكونها تحالفا بين "مجموعة من الموظفين في الدولة وبعض القطط السمان (في القطاع الخاص) في تزاوج غير شرعي لخلق مافيا ليبية"، هي التي اجتهدت لعرقلة التجارب الإعلامية الجديدة الصادرة عن "مؤسسة الغد" حتى وهي تعلم أنها حاصلة على ضوء أخضر من العقيد القذافي.
وكان واضحا أن سر تفوق الصحيفتين الجديدتين يكمن في أربعة عناصر أولها أنهما تخلتا عن اللهجة المتخشبة للتقارير التي تنقلها الصحف المحلية الأخرى عن "وكالة أنباء الجماهيرية"، وثانيهما شمولهما لأبواب متنوعة من السياسة إلى الإقتصاد إلى الثقافة والفن والرياضة، وثالثها نوعية الورق الراقية والإخراج الذي يختلف عن بؤس الصحافة الجماهيرية، ورابعها السعر الذي لا يتجاوز 500 درهم، وهي عناصر جعلتهما صحيفتين رائجتين بتفاوت، وإن لم يتسن الحصول على كمية السحب على رغم الإتصال بالمسؤولين عنهما.
ومن ضمن روح التجديد هذه "تجاسرت" على إجراء مقابلة صحفية مطولة مع ديفيد وولش عندما زار ليبيا في السنة الماضية بصفته مساعد وزيرة الخارجية الأميركية وطرح عليه رئيس تحريرها الذي أجرى المقابلة أسئلة غير مألوفة في الإعلام الليبي التقليدي. هل زال هذا النفس مع قرار القذافي ضم "مجموعة الغد" إلى القطاع العام؟ لا يمكن ملاحظة تغيير كبير، فصحيفة "أويا" ظلت تنفرد بأخبار لا تنشرها الصحف الحكومية منها مثلا خبر اكتشاف خنزير وحشي نافق في السواحل الليبية غرب طرابلس، وهو موضوع شديد الحساسية في هذه الأيام. لكن عيب عليها أنها لم تحصل على معلومات دقيقة عن مصدر الخنزير، فيما كشف تقرير نشرته صحيفة "الوطن " الألكترونية أن مصدره محمية على الحدود التونسية الليبية.
وهذا يعني أن الصحف المحسوبة على سيف الإسلام تخوض في مواضيع وظواهر يسكت عنها الإعلام الرسمي، إلا أنها لا تستطيع الذهاب بعيدا في كشف كل الحقائق المحيطة بالواقعة أو الظاهرة. مع ذلك تنتقدها بعض الأقلام في المواقع والصحف الإلكترونية وتعتبرها دون المستوى المطلوب من الحرية، وعلى سبيل المثال اعتبر الفيتورى مفتاح الفيتورى في تعليق نشرته صحيفة "الوطن" الإلكترونية الليبية أنه من حق أي ليبي أن ينشر في هذه الصحف وليس من حق أي طرف احتكارها. ورأى أنه "ليس من حق أي موظف في تلك الصحف أن يكتب لنفسه وينشر عن نفسه، بل المفروض أن المحرر والطاقم الفني لا يكتبان نيابة عن مشاكل و رأي والناس".
تضييقات شديدة على الصحف الألكترونية
واللافت أن المواقع والصحف الألكترونية تتكاثر في ليبيا بشكل عجيب وهي تستقطب أعدادا متزايدة من الزوار والكتاب مثلما تدل على ذلك قائمة التعاليق الطويلة التي تنشر تعقيبا على أي خبر أو معلومة تبثها.
ولتيار سيف الإسلام نصيب من تلك الصحف الألكترونية من بينها ما يُسمى بالمواقع الإصلاحية الخمسة، وهي الإجدابي من إجدابيا وجلينانة من بنغازي والسلفيوم من البيضاء وفيلادلفيا من درنة والصياد من طبرق. لكنها تتعرض لتضييقات شديدة منها إيقاف التمويل عنها، ومحاولة إقفالها لكونها داعية لهامش من الحرية الصحافية ومحاربة الفساد. ونسبت صحيفة "ليبيا اليوم" لمن وصفتها بـ"مصادر مسؤولة بـ"شركة الغد للخدمات الإعلامية" أن هناك خطة لنقل تبعية تلك المواقع من "مؤسسة القذافي للتنمية" إلى "شركة الغد" التي تعرضت للتأميم.
وكشف الشاعر خالد المغربي رئيس تحرير موقع جليانة (تأسس في مارس 2006) بعضا من تلك الضغوط في مقابلة بثتها معه "ليبيا اليوم" وأشار فيها إلى أن جهاز الأمن الداخلي استدعاه وحقق معه بشأن مواد منشورة في الموقع، كما أن أحمد إبراهيم "المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر" طالبه بوجوب إخضاع هذه المواقع إلى "سلطة الشعب" والإنضمام إلى "حركة اللجان الثورية" (الحزب الحاكم) فرفض الإنصياع لتلك الضغوط على ما قال. لكن مشاكله لم تتوقف في هذا المستوى إذ أن الدكتور يوسف صوان المدير التنفيذي للمؤسسة اجتمع مؤخرا مع رؤساء تحرير المواقع وأعلمهم بأنه لا توجد إمكانات لتسديد المستحقات وتسيير المواقع، بل وطلب منهم تقليص الموظفين الذين يعدون على أصابع اليد الواحدة في كل موقع.
وتعجب المغربي من عجز المؤسسة عن سداد المستحقات ووقف الإنفاق على المواقع اعتبارا من شهر مارس الماضي، في الوقت الذي "تُنفق فيه المؤسسة الملايين والمليارات في الخارج و(خاصة) في إفريقيا" مثلما لاحظ. وذهب المغربي إلى التعبير بصراحة عن مخاوفه من أن الإصرار على الطلب الذي قُدم لرؤساء التحرير في الاجتماع الأخير "إنما هو وسيلة تدريجية للقضاء على هذه المواقع بنوع من الحياء والخجل وحجج واهية وذلك لكونها أثارت إزعاجا بتأثيرها الإيجابي والفعلي".
ويمكن القول إن ما تتعرض له الصحف الإلكترونية يختزل المرحلة الجديدة التي انتقل إليها الإعلام الإصلاحي في ليبيا برمته، فلا توجد قرارات مكتوبة ولا وضع قانوني واضح يجعل الصحف الورقية والإلكترونية وقناة "الليبية" التليفزيونية والمحطات الإذاعية تتمتع بمنزلة محددة، وكما قال المغربي "لا يوجد شيء رسمي لدينا يثبت أننا نتبع لها بل لا يوجد أي شيء مختوم وموقع من المدير التنفيذي لـ"مؤسسة القذافي للتنمية"، ونحن نفتقر للإجراءات الإدارية الرسمية في هذا المجال إذ أصبحنا للأسف كالكرة تقذف من جهة لأخرى على الرغم من أن لنا كياننا كأدباء وكتاب ولنا صوتنا الذي يخدم قضايا الدولة".
وهذا الوصف يختزل بدقة حالة المؤسسات الإعلامية للتيار الإصلاحي، الذي يبدو أن العقيد معمر القذافي أنهى دوره فباتت يتيمة تتقاذفها الأمواج، في مقابل منح سلطات واسعة لنجله الآخر المعتصم القذافي، وهو ما تأكد من خلال إيفاده إلى الولايات المتحدة حيث اجتمع مع وزيرة خارجيتها هيلاري كلينتون، فيما تتحدث الدوائر القريبة من سيف الإسلام عن اعتزامه الهجرة والإكتفاء بإدارة مركز دراسات في بلد أوروبي (قيل إنه قد يكون سويسرا).
أما قناة "الليبية" فاتسمت هي الأخرى بقدر من الجسارة (بالمقاييس الليبية) وتخلت عن كثير من الطقوس التي تلتزم بها القناة الرسمية التي لا تلهج إلا باسم "القائد" معمر القذافي. لكنها كانت رأس الحربة الإصلاحية التي توجه إليها القذافي الأب شخصيا ليوقد الضوء الأحمر ويُعلن أن اللعبة انتهت. وربما كانت استضافة برنامج "قلم رصاص" هي التي أفاضت الكأس، إذ اختار الإعلامي الجسور حمدي قنديل قبل فترة قليلة قناة "الليبية" الفضائية رغم العروض الكثيرة التي انهالت عليه بعد إيقاف برنامجه الشهير على قناة "دبي" في شهر ديسمبر الماضي، ليطل من خلالها على جمهوره العربي، عارضا له قضاياه ومشاكله وهمومه وأوجاعه. ورغم ضيق هامش حرية الصحافة في ليبيا، حصل على وعد بالمحافظة على سقف الحرية الذي ينشده.
وجاءت الصدمة الكبرى التي لم يتوقعها قنديل، وإن تنبأ بها العالمون ببواطن الأمور بإيقاف البرنامج بعد تقديمه ثلاث حلقات، ولم يطاول الوقف برنامجه فقط بل امتد إلى وقف إرسال الفضائية على القمر الصناعي المصري "نايل سات"، وإن استعادته في ما بعد. وفي الوقت الذي ترددت فيه أنباء عن أن العقيد معمر القذافي كان وراء إيقاف البرنامج بسبب تأميمه القناة، ترددت معلومات أخرى تؤكد أن استياء مصريا رسميا كان وراء ما حدث، خاصة بعد تناول قنديل في حلقته الأخيرة من البرنامج للتوتّر بين مصر وحزب الله.
محاربة الفساد
تدل كل المؤشرات على أن ربيع الإعلام الليبي انتهى مع أولى نسائم فصل الربيع، وذلك بسبب تخطيه العلامات الحمراء، وخاصة المواقع الالكترونية التي اعتبر كتاب كثر أنها "تقف في خط المواجهة الأول في مواجهة الفساد مما جعل المشرفين عليها مهددين دائما بسبب ما ينشر في مواقعهم".
وقدم المواطن الذي أبدى هذا الرأي في صحيفة "الوطن" الإلكترونية من دون الكشف عن اسمه الحقيقي، رواية طريفة لسبب إسكات الإعلام الإصلاحي معتبرا أنه مع توسيع هامش الحرية "يقوم المواطن بفتح ملفات ما كانت لتفتح، ويطالب باسترجاع حقوق ما كانت لترد، وأصبح الكتاب ينشرون مقالات كانت كتابتها بمثابة الإقدام على الانتحار في زمن طغيان اللجان الثيرانية، ومن هنا هرعوا وفرحوا وقالوا ألم نقل لكم هذا من قبل؟ ألم نقل لكم إنه لأجل استمرار الحال يجب تجميد كل شيء، وعودة الأحوال إلى ما كانت عليه قبل سقوط صدام و احتلال العراق، سيما بعد ذهاب الرئيس المرعب بوش عن منصة الحكم؟ فالآن صارت الفرصة مناسبة جدًا لاستمرار البطش وتكميم الأفواه ومنع الحريات ومصادرة منابر الحرية وإرهاب القائمين عليها، وإبعاد دعاة الإصلاح واتهامهم بتشكيل الخطر على ثورتهم - ثورتهم هم أي اللجان (الكاتب)- التي حكموا باسمها واستمدوا الشرعنة من الدفاع عنها وعن قائدها من أعداء وهميين يمثلون كل أفراد الشعب.."
لكن كتابا آخرين لم يشاطروا هذه الرؤية وإن توقعوا أن تنهار كثير من الصحف الإلكترونية ووجه أحدهم هذا النداء لسيف الإسلام: "لنعمل معاً من أجل أن تبقى هذه المواقع ونعمل من أجل إنشاء مواقع إلكترونية ليبية أخرى: مواقع شباب ليبيا الغد، السلفيوم، الصياد، جليانة، الإجدابي، فيلادلفيا، تناديك يا سيف الإسلام القذافي هل تسمع؟ أجب إن كنت تسمع واعمل من أجل بقاء هذه المواقع". فهل سيُجيب نجل العقيد؟
رشيد خشانة
المصدر : ايلاف