تحتفظ مدينة القدس بالطابع الهندي لزاوية صغيرة يعود عمرها إلى ما يزيد على 800 عام.
ففي عام 1200 ميلاديا، بعد أكثر من 10 سنوات من إجبار جيوش صلاح الدين الأيوبي الصليبيين على الخروج من المدينة، انتقل الدرويش الهندي حضرة فريد الدين غاني شاكار للإقامة في القدس.
وينتمي شاكار (المعروف باسم بابا فريد) إلى الطريقة الجشتية الصوفية، التي ما زالت موجودة إلى يومنا هذا في الهند وباكستان وأفغانستان.
وتشير قصص عن حياته إلى أنه قضى أيامه في تلك المدينة المقدسة في مسح الأرضيات الحجرية التي تحيط بالمسجد الأقصى، وكان يصوم داخل كهف قابع داخل جدران المدينة.
ولا يعلم أحد طبيعة الفترة التي قضاها بابا فريد في المدينة. لكن بعد فترة طويلة من عودته إلى إقليم البنغاب، حيث أصبح شيخا للطريقة الجشتية، دأب المسلمون الهنود أثناء مرورهم بمدينة القدس في طريقهم إلى مكة على الصلاة في الأماكن التي كان يصلي بها ذلك الشيخ، ويناموا حيث كان ينام.
وشيئا فشيئا تأسس في الموقع ضريحا ومضيفة للحجاج، أو ما يعرف بالتكية الهندية، لاحياء ذكرى بابا فريد.
وبعد أكثر من ثمانية قرون، ما زالت تلك المضيفة قائمة إلى وقتنا هذا. وعلى الرغم من وجودها داخل جدران مدينة القدس فإنها ما زالت تخضع لإدارة هندية.
تاريخ وذكريات
وقال أنصاري: "جميع النزلاء من الهنود. أشعر كأنني في الهند. فدخول المضيفة، أشبه بالدخول إلى الهند. كان الناس يأتون في ذلك الوقت على متن السفن. واعتادوا أن يحضروا معهم احتياجاتهم من الغذاء والأرز وحتى الملح. كل شيء من الهند. فبمجرد أن تدخل البوابة، تشم رائحة الطعام الهندي، وهم يغسلون ملابسهم ويعلقونها هنا في الفناء."
وحالت الحرب دون توافد الحجاج عبر المدينة، ومن ثم انتهت مشاهد حافلة يحتفظ بها منير من ذكريات الطفولة.
وأصبحت المضيفة معسكرا للفرقة الرابعة مشاة التابعة للجيش الهندي، التي غادر جنودها عندما اندلعت الحرب العربية الإسرائيلية في عام 1948.
وفي ذلك الوقت سار منير على نهج والده وخلفه في شياخة المضيفة في عام 1952، ووقع المبنى تحت وطأة القصف ولجأ إليه فلسطينيون. لكن الأوضاع ساءت أكثر فيما بعد.
في عام 1967، أصيبت المضيفة بصواريخ أثناء حرب الجيش الإسرائيلي وزحفه نحو القدس في حرب الأيام الستة.
وقال "بدأت حرب 1967 يوم الاثنين الخامس من يونيو/حزيران. في اليوم التالي وجدناهم عند مدخلنا. وبحلول الليل، كان هناك نحو 50 إلى 60 جنديا أردنيا داخل البوابة. كانوا في حالة سيئة للغاية ويطلبون الماء."
وأضاف: "كان ذلك يوم الثلاثاء. وفي صباح يوم الأربعاء خرجنا ولم نعثر على جندي واحد. لقد هربوا، وتركوا زيهم وحتى أسلحتهم. كان الإسرائيليون قد بدأوا الاستعداد من أجل دخول المدينة القديمة. فأخذ بعض السكان المحليين تلك الأسلحة التي خلفها الجنود الفارون وبدأوا يطلقون الرصاص. ودفعنا ثمن ذلك."
وأثناء قصف الإسرائيليين المضيفة، كان الشيخ منير يهرع بأسرته من غرفة إلى غرفة. ووقعت قذائف على مقربة من ضريح بابا فريد، كما انهار سقف المضيفة.
وأصيب الشيخ منير في ذلك الوقت في يده ووجهه بشدة، واستطاع إخراج الناجين من تحت الأنقاض، وتوفيت والدته وشقيقته وابن شقيقته البالغ من العمر وقتها عامين.
دور الصوفية
فمهما كان الوضع وقتها، فمما لا شك فيه أن تاريخ هذه المضيفة قديم جدا، يعود إلى أيام كان يحكم فيها صلاح الدين قبضته على مدينة القدس.
وكان بابا فريد قد وصل إلى المدينة عندما عادت لتوها إلى أيدي المسلمين بعد قرن من سيطرة المسيحيين عليها. وبعد أن تركها الصليبيون، فهم صلاح الدين أنه إذا أراد المسلمون الاحتفاظ بالقدس، فهم يحتاجون إلى التكافؤ مع الصليبيين ليس في ميدان المعركة فحسب، بل في حماسهم تجاه المدينة.
ولعبت الصوفية وقتها دورا مفيدا.
ظل الفقهاء ورجال الدين ينظرون إلى الصوفيين وموسيقاهم ورقصاتهم الدوارة وأفكارهم الجريئة على أنها مجموعة تثير الريب.
وللصوفية أتباع كثيرون وليس من الصعب الوقوف على أسباب ذلك، إذ ترصد تقليدا يتحدث كثيرا عن رحمة الله بدلا من التركيز على شدته، حديث بلهجة إسلامية يعلو فيها صوت الحب على صوت التحريم أو العقيدة.
ورحب صلاح الدين في وقتها بالصوفيين وشجع على ممارسة الشعائر وبناء أضرحة ودور عبادة.
كان هذا هو الجو العام المحيط بمضيفة بابا فريد التي تجمع بها أول حجاج هنود يأتون ومعهم الآلات الموسيقية والألحان من أقليم البنغاب.
وعلى مدار ما يربو على 300 أو 400 عام تالية، انضمت الجماعات الصوفية من شتى أرجاء العالم الإسلامي إلى الهنود في القدس. وتدفقت الأموال على بناء المدارس ودور الضيافة التي يقيم بها الصوفيون القادمون من المغرب والقرم والأناضول وأوزبكستان.
فعندما قدم الرحالة التركي ايفيليا سيليبي في القرن السابع عشر، رصد نحو 70 مضيفة للصوفيين داخل المدينة. وكتب واصفا القدس بأنها مكة الدراويش.
وظلت الكثير من تلك الدور تزاول نشاطها حتى عشية الحرب العالمية الأولى. وبفضل حماية الأمبراطورية العثمانية، نجت الأضرحة التي بناها صلاح الدين والتي وصفها سيبيلي في كتاباته وعاشت حتى القرن العشرين.
لكن الحرب والحداثة حالت دون استمرار الأنماط القديمة لرحلة الحج. وتوقفت طرق القوافل، ورسمت حدود فاصلة بين الدول على خارطة الشرق الأوسط.
كفاح من أجل البقاء
وشيئا فشيئا بدأت دور الضيافة الصوفية تغلق أبوابها، وعندما سقطت الإمبراطورية العثمانية نهائيا في عام 1922، لم يتوقع أحد ازدهار المضيفة الهندية مرة أخرى.
ووصل وقتها رجل يدعى نظير حسن أنصاري في عام 1924 قادما من ساهارنبور في أوتار براديش، وعلى مدار 27 عاما تالية لم يعكف أنصاري على ترميم المضيفة فحسب، بل اهتم بإحياء فكرة مدينة القدس بوصفها أرضا مقدسة للمسلمين الهنود.
وبعودة الحجاج الهنود إلى القدس، استعادت المضيفة مكانتها وروحها.
ودأب الشيخ نظير خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي على الذهاب إلى الهند ساعيا إلى إقناع الأمراء المسلمين هناك من أجل التبرع لإعادة بناء المضيفة. وكان من بين من أسهموا بأموالهم رجل يدعى نظيم من حيدر أباد، ظهر على غلاف مجلة "تايم" عام 1937 كأغنى رجل في العالم.
وبعد عودته إلى القدس تزوج الشيخ نظير بسيدة فلسطينية تدعى مسرّة، وأنجبت له منير في عام 1928.
وبعد 40 عاما، وفي أعقاب حرب الأيام الستة، دفن منير والدته في مقابر المسلمين القريبة من شارع صلاح الدين في المدينة التي تخضع حاليا لسيطرة الإسرائيليين. لكن ضحكات أطفاله الخمسة الذين نجو من الهجوم خففت من وطأة الحزن.
واستطاع الشيخ منير تربية أولاده داخل المضيفة بعد أن أعاد بناء الغرف التي دمرها القصف وزرع أشجار الليمون التي تزهر في الفناء المشمس الهادئ.
وتضم المضيفة حاليا مكتبة إلى جانب مسجد وغرف للضيوف الهنود القلائل الذين مازالوا يزورون المكان.
وفي عام 2011 حصل الشيخ منير على جائزة يمنحها رئيس الهند عن دوره الاستثنائي في خدمة البلاد.
وقال منير "لا أخاف. أنا راض عن المستقبل وما نقدمه نحن، أسرة أنصاري، من خدمات. سيخلفني ابني الأكبر نظير من بعدي كشيخ للزاوية (المضيفة)."
سألت إن كان نظير الذي يعمل في الخارج من المهتمين بذلك، تردد الشيخ منير، ونظر إلى صورة معلقة على الحائط لوالده وقال "ليست في قائمة اهتماماته."