بالنسبة إلى شخص لم ينم كثيرا ويعمل لساعات طويلة شاقة على مدى شهور، فإن أنيس السّمعلي، البالغ من العمر 27 عاما، هو مثال جيد تماما.
يدير السّمعلي فريقا من 500 مراقب انتخابي في مجموعة "مراقبون" التي راقبت الانتخابات البرلمانية الأخيرة في تونس التي أجريت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وستراقب الأحد المقبل أول انتخابات رئاسية تشهد تنافسا حرا في تاريخ هذا البلد.
وقال السّمعلي بابتسامة عريضة في وجهه "هذه هي أهم انتخابات في تاريخ تونس. بعد ذلك، سيكون لدينا حكومة حقيقية بتفويض لخمس سنوات، تونس تظهر أنه من الممكن تحقيق ديمقراطية حقيقية ومستديمة في العالم العربي".
قبل أقل من أربع سنوات مضت، كان السّمعلي واحدا من بين مئات الآلاف الذين خرجوا في مظاهرة خارج مبنى وزارة الداخلية للمطالبة بإنهاء الديكتاتورية.
وكانت الإطاحة بالرئيس التونسي آنذاك زين العابدين بن علي مصدر إلهام للشباب في جميع أنحاء العالم العربي.
وأطيح بقادة ليبيا ومصر واليمن بعد أن ظلوا في الحكم لفترات طويلة وسط مشاهد بدت يوما ما غير واردة.
لكن تونس فقط استطاعت أن تمر بمرحلة انتقال ناجحة، في حين شهدت دول أخرى انتفاضات مماثلة عادت إلى الحكم الاستبدادي أو انزلقت إلى العنف والفوضى، وهو ما قضى على أحلام وآمال النشطاء الشباب.
مثير للدهشة
في تونس جرى تبني أكثر دساتير المنطقة تقدما في وقت سابق من هذا العام.
ويأمل التونسيون في أن تمثل فترة الانتخابات الحالية بداية جمهورية تونسية ديمقراطية ثانية.
يتنافس في الانتخابات الرئاسية 26 مرشحا، من بينهم العديد من الأعضاء السابقين في نظام بن علي المخلوع.
وبالرغم من أن منصب الرئاسة أصبح الآن شرفيا إلى حد كبير، فإن العديد من الشباب التونسي سيرى أن ترشح الحرس القديم لهذا المنصب كالدواء المر.
لكن هذا جاء عقب جدل برلماني حول قانون انتخابي جديد صوت خلاله السياسيون ضد حظر الأعضاء السابقين في نظام بن علي من تولي مناصب سياسية.
كان ذلك قرارا مثيرا للدهشة، خاصة بالنظر إلى أن حزب النهضة الإسلامي، الذي تعرض العديد من أعضائه في السابق للتعذيب في ظل نظام بن علي، لكنهم صوتوا ضد قرار الحظر.
وقالت جوهرة التيس ممثلة حزب النهضة في البرلمان المنصرم "نحن أبناء السجناء السياسيين رأينا قسوة النظام على وجوه آبائنا وأمهاتنا".
وحينما كانت صغيرة، تتذكر التيس الوقت الذي اعتقل فيه والدها وتعرض للتعذيب. وفور إطلاق سراحه، شاهدت التيس آثار إطفاء السجائر على جسد أبيها.
وقالت "لقد كانت صدمة لي وأنا أشاهده مشوها، لكن الأمر الذي كان أسوأ من ذلك هو التعذيب النفسي. لقد عشنا في خوف لسنوات، لكن هذا دفعني لأصبح ناشطة سياسية".
وفي عام 2011، حينما كان عمرها 26 عاما، أصبحت جوهرة التيس عضوة في الجمعية التأسيسية التونسية وشاركت لاحقا في كتابة الدستور الجديد.
وقالت "إنني فخورة جدا بهذا الدستور، الناس في العالم العربي يجب أن يتعلموا كيف يجلسون معا ويجرون حوارا، يجب أن يتعلموا فن التوافق".
وأضافت "الدولة القوية هي الدولة التي تحترم جميع الطوائف الدينية والجماعات الدينية فيها".
وبالنسبة لحزب النهضة، فإن جزءا من التسوية كان السماح لأعضاء سابقين في حكومة بن علي للترشح في مناصب حكومية.
وقالت جوهرة التيس "كان يجب علينا أن نصغي لضمير مواطنينا، إذا كانت إرادة الناس هي عودة وكلاء النظام السابق، فيجب علينا قبول ذلك".
المرشح الأوفر حظا
ويعود التجمع الدستوري الديمقراطي إلى الحياة العامة من خلال أعضاء في أحزاب أخرى.
ويضم حزب نداء تونس بين صفوفه، وهو أكبر حزب علماني وفاز بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات البرلمانية التي جرت الشهر الماضي، العديد من المسؤولين السابقين في نظام بن علي.
وقد شغل المرشح الرئاسي لحزب نداء تونس الباجي قائد السبسي الذي يبلغ من العمر 88 عاما، في منصب وزير الداخلية في عهد الحبيب بورقيبة أول رئيس لتونس، وعين لاحقا رئيسا للبرلمان في عهد بن علي.
وينظر إليه باعتباره الأوفر حظا للفوز بانتخابات الرئاسة. ويرفض نداء تونس فكرة أنه يمثل عودة للنظام القديم.
وقال محمود بن رمضان عضو اللجنة التنفيذية للحزب إن "الثورة واجبنا ومصدر إلهامنا"، مؤكدا أن التجمع الدستوري الديمقراطي كان "حزب الدولة ويضم 2.5 مليون عضو".
فاز حزب نداء تونس بالانتخابات، لكنه لا يملك المقاعد الكافية ليحكم منفردا.
ولا يزال شكل الحكومة القادمة غير واضح. وقد طرحت فكرة تشكيل حكومة وحدة تضم حزب النهضة، ولا يزال هذا خيارا محتملا. لكن على الأرجح قد لا يلقى قبولا كبيرا على المستوى الشعبي.
وقال بن رمضان "يجب علينا اتخاذ قرارات صعبة، الإجابة ليست سهلة".
هناك فرصة جيدة أمام التجمع الدستوري للوصول إلى مرحلة الإعادة في الانتخابات الرئاسية المتوقع إجراؤها في أواخر ديسمبر/كانون الأول المقبل، ويريد أن يبدأ محادثات لتشكيل تحالف بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية.
وترى نيكول روسيل، مديرة البرامج في المعهد الديمقراطي الوطني، أن تعهد تونس بإشراك الجميع يمثل عنصرا مركزيا في انتقالها الناجح.
وقالت "كانت هناك لحظات واجهت فيها النقاشات مأزقا، أو توقفت العملية (التفاوضية) برمتها، لكن السياسيين تواصلوا مع بعضهم البعض وأكدوا عزمهم مرة أخرى الالتزام بتحقيق هدفهم، وكان في النهاية (التوصل) لتسوية سياسية صعبة دفعت تونس لتحقيق هذا الانجاز".
وبالرغم من التقدم السياسي والإشادة بالتحركات التي شهدتها تونس، فإن العديد من المواطنين لا يزالون غير مقتنعين بأن الثورة التي أطلقوها حققت تغييرا حقيقيا.
في الانتخابات البرلمانية، كان الإقبال في مدينة سيدي بوزيد التي كانت مهد الثورة هو الأقل في البلاد.
حتى في العاصمة تونس، أعرب العديد من التونسيين الفقراء عن استيائهم.
في شارع شارل ديغول، الشاب محرز الذي يبلغ من العمر 30 عاما هو واحد من بين مئات الباعة الجائلين في المنطقة الذين يعملون بصورة غير قانونية، ويبيع كل شيء من الجوارب إلى أواني الطهي.
ويمثل الاقتصاد غير الرسمي مشكلة مالية كبيرة للحكومية في تونس، لكن بالنسبة للعديد من السكان فإن تجارة السلع بصورة غير رسمية هي الوسيلة الوحيدة لتغطية نفقاتهم.
ويقول محرز، وهو متزوج وله ابنة، "أريد مكانا يمكنني أن أعمل فيه، مساحة لبيع بضاعتي".
وأضاف "طلبت إذنا (من المسؤولين) منذ فترة (للعمل بحرية)، لكن في المقابل لدينا دائما مشاكل مع الشرطة، والدولة لم تف بما تعهدت به لنا، لماذا يجب علي أن أدلي بصوتي (في الانتخابات) إذن؟
خزائن فارغة
وأيا كان تشكيل الحكومة القادمة في تونس، فإن المطالب بفرص اقتصادية أكبر على الأرجح ستختفي.
هذه المطالب، التي كانت أحد الأسباب الرئيسية وراء الثورة، لم تجر معالجتها، ولم يصل الإصلاح بعد إلى الأجهزة الأمنية والنظام القضائي.
وأشار استطلاع للرأي أجراه مركز بيو للأبحاث تراجع معدل الثقة، إذ قال 48 في المئة فقط من التونسيين إن الديمقراطية أفضل من أساليب الحكم الأخرى.
وأوضح المركز أن جزءا من هذا الاستياء قد يكون بسبب الجانب الاقتصادي، إذ إن 88 في المئة من المستطلعة آراؤهم قالوا إن الوضع الاقتصادي سيء.
وقال محمد علي مرواني، الخبير الاقتصادي والمحاضر في جامعة السوربون - الذي أجرى أبحاثا استشارية للحكومة التونسية - إن "الناس مستاؤون بالفعل من تعسف النظام. غادرت عائلة بن علي، لكن النظام لم يتغير على الإطلاق".
وأضاف "إذا كنت مرتبطا بالنظام السياسي، فإمكانك الاستفادة من التمويل والتراخيص".
وحتى الآن، تراجع الاستثمار الأجنبي بواقع 25 في المئة، وفرغت الخزينة العامة، ولا يزال معدل البطالة مرتفعا بصورة هائلة.
ويتعاطف مراقب الانتخابات السّمعلي مع وجهة نظر هؤلاء المستاءين، لكنه يقول إنه قد حان الوقت للمطالبة بالتغيير.
واعتبر أن "الناس لديهم الفرصة لتحديد مصيرهم بأنفسهم. في الماضي كانت الديكتاتورية هي التي تختار مصيرنا".
وأضاف "نحتاج بأن نترك خلفنا عقلية الاستبداد، ونواصل العمل معا ومتشاركين، نحتاج إلى أن نستمر في التطلع للمستقبل".