(ما يرد في المقالة يعبر عن رأي كاتبها ولا يعكس وجهة نظر CNN)
أفضت الانتخابات التشريعية التونسية الى نصر غير مسبوق في المجتمعات المسلمة لحزب غير إسلامي التوجه و هزيمة منكرة لحركة النهضة ممثل حركة الاخوان المسلمين في تونس. كان هذا النصر بمثابة الزلزال الذي تجاوزت تداعياته تونس الصغيرة لتصل امتداداته للعالم بأسره. تعددت الإشادات بالتجربة الديمقراطية التونسية و تعدد الغمز من جميع الأطراف. ففيما تحدثت الموالاة المصرية عن اقصاء للاخوان بالصندوق تحدث بقايا الإخوان المصريين بإشادة منقطعة النظير عن ديمقراطية فرع الحركة في تونس و ترفعه عن الانقلابات. تعددت المقالات في المشرق عن التجربة التونسية و كانت سمتها السطحية المفرطة و الاختزال الغبي. فمن مختزل لنداء تونس في النظام السابق ومن متحدث عن ثورة مضادة، وآخرها كان من القناة نفسها التي ارتبط اسمها بالإخوان والتي تتخذ من قطر مقرا لها، كأن الثورة التونسية كانت اسلامية الطابع خارجة من المساجد، مقيمة للأذان و التكبير، و من متمني ضمنا ان تستيقظ تونس على التفجيرات و السيارات المفخخة. باختصار لم و لن يفهمنا المشرق العربي طالما اسقط واقعه علينا و طالما رآنا عبر مرآته الأيديولوجية المكسورة.
نداء تونس و النظام القديم
من الأساطير المتداولة في المقالات المشرقية، ان نداء تونس حزب ينتمي للنظام القديم و مشكل كليا من بقايا التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل، حزب نظام بن علي ! و الحقيقة مختلفة تماما.
فالتجمع الدستوري الديمقراطي كان بالفعل تجمعا لأطياف سياسية كثيرة منها الاسلاميون. ففي محاولة بن علي تشكيل الحزب الواحد الشامل و تثبيت سلطته بعد تعديل الدستور، امتلأ التجمع المنحل بالعديد من العناصر اسلامية الهوى الى درجة جعلت الدولة في العشرية الأولى من القرن الحالي تتراجع عن سياسة تجفيف المنابع الاسلامية التي انتهجتها في التسعينات. و بدأت البرامج الدراسية و الحياة العامة تتغير و تصطبغ بنزعة محافظة في تونس : دخول الاعجاز العلمي في القرآن في المنهج الدراسي للتفكير الاسلامي، احداث قناة الزيتونة للقرآن الكريم، التغطية الاعلامية لمناسك حج الرئيس، احداث بنك اسلامي، استغلال حدث القيروان عاصمة للثقافة الاسلامية للحصول على شهادات عذرية اسلامية من مشائخ كالقرضاوي ... مظاهر عديدة من المحافظة ذات التوجه الاسلامي الإخواني طفت على السطح. و بعد الثورة، دخل الشق الإخواني الاسلامي من التجمع المنحل في حركة النهضة و ذلك في القيادات الدنيا و المتوسطة. فبعبارة اخرى انقسم التجمع الى شراذم عديدة اتجه جزء كبير منه نحو الحزب الإخواني لقربهم الفكري منه ... فمن أين جاءت العذرية الثورية للاخوان في تونس وهم لم يشاركوا في الحراك اصلا ؟
أما نداء تونس، فهو نداء التخلص من الإخوان ديمقراطيا. و التف حول شخص الباجي قائد السبسي كل من له مشكلة جذرية مع الإخوان و لا يمانع في التحالف مع عناصر من النظام السابق. و بهذا تشكل نداء تونس من بورڤيبيين دستوريين أي الجيل الأول للاستقلال و وزراء الزعيم الراحل الحبيب بورڤيبة، يساريين من مختلف مشاربهم و انتماءاتهم من نقابيين و يسار فرنكفوني و يسار عمّالي و يسار راديكالي، تجمعيين منتمين للشق غير الإسلامي في التجمع المنحل، و لبراليين حديثي العهد بالسياسة.
إنه خليط اجتمع حول الباجي قائد السبسي بروابط عديدة : الأبوية الباطرياركية، التجربة السياسية، الرغبة الصادقة في انتزاع الحكم من يد الإخوان عبر الصندوق، البورڤيبية السياسية، الاتجاه الوسطي في البرنامج و الحكم و تغليب منطق الدولة و مؤسساتها
ديمقراطية الإخوان ؟
عند هذا الحد نتجاوز الأسطورة لندخل في طور المهزلة ... فأي ديمقراطية هذه في ظل حكم شهد ثلاثة اغتيالات سياسية ؟ حيث تعرض لطفي نقض منسق نداء تونس في الجنوب إلى القتل من قبل جماعات حماية الثورة الإخوانية دهسا تحت الأقدام. و تعرض الرفيق شكري بالعيد إلى عملية اغتيال بالرصاص أمام منزله في فاجعة كبرى وحّدت التونسيين فكانت أضخم جنازة شعبية في تاريخ تونس ثم تعرض محمد البراهمي للاغتيال بثلاثة عشرة رصاصة.
فأي ديمقراطية هذه في ظل ميليشيات حماية الثورة التي شاركت في قمع تظاهرة عيد الشهداء رفقة البوليس في 9 أبريل/نيسان 2013 ؟ أي ديمقراطية في ظل التضييق على الفنانين و محاصرة أعمالهم ؟ أي ديمقراطية في ظل استفحال فتاوى التكفير و القتل ؟ أي ديمقراطية في ظل نسخة أولى من دستور الإخوان نصت على مجلس إسلامي أعلى ينسف تماما مدنية الدولة و لا ينص على المساواة التامة بين الرجل و المرأة ؟ أي ديمقراطية في ظل دعوات من نواب الإخوان في المجلس التأسيسي بالصلب و القتل و تطبيق حد الحرابة ؟ أي ديمقراطية هذه في ظل ضرب المنظمة النقابية التونسية ؟ أي ديمقراطية في ظل التراخي و التساهل مع الإرهاب و السماح لزعيم أنصار الشريعة ابو عياض بالهروب إلى ليبيا ؟ أي ديمقراطية في ظل إغراق الإدارة بستين ألف تعيين إخواني و تعويضات مشطة لهم في وقت تعاني منه تونس من أزمة اقتصادية خطيرة و تردٍ للوضع الأمني أضعف السياحة و مداخيلها من العملة الصعبة ؟
إن ديمقراطية الإخوان المزعومة ليست إلا نتاج صراع المجتمع المدني التونسي و علمانييه و يسارييه و مثقفيه و فنانيه... منا أجبر الإخوان على الإذعان و القبول بتأجيل مخطط أسلمة تونس.
إن هذا التداول السلمي على السلطة ليس إلا نتيجة تضحيات و دماء و دموع ومائة و خمسة و خمسين شهيدا و جريحا لقوات الأمن في مواجهة الإرهاب الذي تسترت عليه حكومة الإخوان (ملاحظة المحرر: مازالت التحقيقات بشأن عمليات الاغتيال وأحداث العنف في تونس لم تبلغ مرحلتها النهائية كما أنّ قياديي حركة النهضة نفوا أي علاقة لهم بتنظيم الإخوان المسلمين العالمي. كما أن هناك دراسات وتصريحات من إسلاميين آخرين تشير إلى أن حركة النهضة تأسست على أنقاض حركة الاتجاه الإسلامي المعروفة وفقا لهم بعلاقاتها بتنظيم الإخوان المسلمين.)
هل تونس استثناء ؟
إن انتماء تونس للفضاء العقلي الإسلامي العربي يجعلها تسير بصفة عامة وفق ديناميكية هذا العقل مما يفقدها أوليا أي تفرد. ولكن لتونس العديد من المميزات. فالتجانس العرقي و الطائفي وإن كان عامل ركود لانعدام الاختلاف في المجتمع إلا أنه وتحت الأفق العقلي الإسلامي أين يسبح التكفير وإبادة الأقليات، يصبح ميزة نادرة تحمي الوحدة الوطنية. كما يساعد صغر حجم البلاد و تاريخها السياسي المتجانس على الحفاظ على الحد الأدنى من السلم الاجتماعي. ينضاف الى ذلك تجارب تحديثية رائدة في القرن التاسع عشر و التأثير الفرنسي الثقافي الإيجابي إضافة إلى تجربة الزعيم الحبيب بورڤيبة. فبورڤيبة العلماني أدرك أن لا أمل في تحديث البلاد دون خطوة أولى تشبه الإصلاح الديني. فألبس إصلاحاته العلمانية كإلغاء تعدد الزوجات و إلغاء التعليم الديني و تحرير المرأة و التنظيم العائلي الاجباري و حقوق الطفل و حق التبني، لباسا من التنوير الإسلامي في خطابه إلى الناس.
صحيح ان تونس لم تلغ قوانين الشريعة في الإرث و إن ألغت الوريث العاصب و أبقت على عدم المساواة المجحفة في حق المرأة إلا أن الخطوة جيدة. ولكن يمكن القول ان رياح العولمة أضرت بتونس كثيرا. فالخطاب الإسلامي المتطرف استفاد من تدفق البترودولار و ساعد على تعطيل ديناميكية الشعب التونسي و جعله يعاني موجات من التطرف و التشدد الديني أسفرت عن تصدر تونس للدول المصدرة للجهاديين لسوريا. كما أنّ عزلة التجربة التونسية جعلها عرضة للموجات الظلامية التي تهب من الشرق مع انفجار مظاهر التدين الاستعراضي و حالة الهستيريا الدينية الإسلامية. كما أن النسخ الإسلامية المسوقة فاقدة للتجذر الثقافي كما يصف أوليفياي روا في كتابه الجهل المقدس زمن دين بلا ثقافة مما جعلها تستفيد من وسائط التواصل الجديدة و تصل إلى كل الأفراد و الشعوب و تبدأ طورا جديدا من أطوار إعادة فتح للشعوب المسلمة اصلا. كما أن نظام بن علي لم تكن له الآليات والميكانزمات الإعلامية و الثقافية لحماية المجتمع من رياح التطرف و الانغلاق نتيجة إعلامه المحنط البائس و تضييقه على المثقفين المطالبين بإصلاحات ديمقراطية.
في المحصلة تونس ليست استثناء عاما بقدر ما هي ذات خصوصيات فريدة صنعت الفارق. وإن عدم الإلمام بتجاربها الفريدة وديناميكيتها الحضارية يقود حتما إلى استنتاجات مغلوطة و أفكار فارغة من قبيل الكليشيهات الجوفاء و المعلبات الفكرية. ولقد قرأت و ليتني ما قرأت عشرات المقالات عن تونس في إعلام المشرق و خلاصة قولي : أيها المشرقيون ... أعينونا بصمتكم- .