استطاعت جبهة النصرة تحقيق انتصار كاسح خلال الأسبوع الماضي في ريف إدلب، باجتياحها معاقل كل من "جبهة ثوار سوريا"، وحركة "حزم"، اللتين تعتبران من أقوى مجموعات المعارضة المسلحة المدعومة أمريكيا.
ومر نحو ستة أسابيع على بدء قوات التحالف استهداف تنظيم "الدولة الإسلامية"، ومجموعات جهادية أخرى في سوريا، لكن التطورات الأخيرة تؤكد أن التحالف الذي تقوده واشنطن يواجه تحديات كبيرة للغاية.
وقال أحد قادة كتائب المعارضة المعتدلة عبر الهاتف لبي بي سي بعد هزيمته على يد جبهة النصرة، تنظيم القاعدة في بلاد الشام: "إننا نباد أمام أعين العالم بأسره، بما في ذلك أصدقاؤنا في الولايات المتحدة".
"انسحاب لحقن الدماء"
وأكد جمال معروف، قائد "جبهة ثوار سوريا"، في شريط مصور بث على موقع يوتيوب، أنه أعطى الأوامر لمقاتليه للانسحاب من معقله في بلدة خان السبل في ريف إدلب "حقنا للدماء".
ولم يشر الشريط إلى مكان وجود معروف الذي ارتقى سريعاً من عامل بناء لقائد إحدى أقوى المجموعات المسلحة في سورية.
لكن حسابات مرتبطة بجبهة النصرة - على مواقع التواصل الاجتماعي - تحدثت عن اعتقال العشرات من مقاتلي معروف، وانشقاق آخرين وانضمامهم لصفوف النصرة التي استطاعت السيطرة على كل القرى في جبل الزاوية بريف إدلب.
ونفى مصدران لبي بي سي أن يكون جمال معروف اعتقل من قبل جبهة النصرة، بحسب ما أفادت تقارير انتشرت على بعض المواقع في الساعات الأخيرة، وأكد مقربون من الرجل أنه يعمل على حشد ما تبقى من مقاتليه عند الحدود بين محافظتي إدلب وحماة بمساعدة أحد قادته، واسمه مثقال العبد الله.
وقد اتهم معروف أبو محمد الجولاني، قائد جبهة النصرة، باحتلال مناطق سيطرته التي كانت جبهة ثوار سوريا "حررتها" من سيطرة قوات الحكومة قبل ثلاثة أعوام.
وكانت مقار جبهة النصرة في ريف إدلب تعرضت لقصف من قبل طائرات التحالف في 23 سبتمبر/أيلول الماضي، وهو اليوم الأول لبدء غارات التحالف في سورية، لكن منذ ذلك الحين لم تسجل أي غارات على التنظيم.
وبدا مستغرباً أن الولايات المتحدة التي تقود التحالف لم تحاول مساعدة "جبهة ثوار سوريا"، رغم أن طائراتها لا تكاد تغادر سماء البلاد لقصف مسلحي تنظيم "الدولة الإسلامية"، خاصة في مدينة عين العرب (كوباني) حيث يسعى المقاتلون الكرد منذ أسابيع صد هجوم التنظيم.
انهيار "حزم"
واستطاعت جبهة النصرة، بمساعدة بعض الكتائب الجهادية الأخرى، السيطرة على غالبية المناطق التي تمتد جنوب وغرب وشرق المدينة التي لا تزال تحت سيطرة القوات الحكومية.
وأكدت مصادر داخل سوريا أن مقاتلي جبهة النصرة، وبعد هزيمة جمال معروف، توجهوا على الفور لمقار حركة "حزم"، التي لم تصمد أمامهم أكثر من ساعات قليلة، وأكدت المصادر لبي بي سي أن النصرة غنمت الكثير من الأسلحة الفتاكة التي حصلت عليها حركة "حزم" من قبل الولايات المتحدة، بما فيها منظومة صواريخ "تاو".
وكانت حركة "حزم" أعلنت قبل بضعة أيام وقوفها إلى جانب "جبهة ثوار سوريا" في مواجهة جبهة النصرة، إلا أن اشتراكها في القتال لم يدم سوى ساعات قليلة، إذ توقف إثر وساطة من قادة كتائب معارضة، لكن جبهة النصرة رفضت قبول الهدنة.
"كانت نهاية مأساوية للغاية"، بحسب وصف أحد المنشقين عن حركة "حزم" للتطورات التي تلت، والتي أدت إلى هزيمة كتيبته.
ولم يتوقع قائد "حزم"، عبد الله عودة، الذي كان في مقر قيادته في إحدى الغابات بالقرب من بلدة خان السبل مع المئات من مقاتليه، ورغم أنهم كانوا يتحسبون لهجوم مماثل في أي لحظة، السيناريو الذي سلكته التطورات اللاحقة.
ويشرح المقاتل المنشق لبي بي سي الوضع بالقول "إن الفوضى عمت المقار عندما أدرك المقاتلون أن النصرة تحكم الطوق حول مكان وجودهم من جميع الاتجاهات".
"بذل عبد الله عودة كل ما يستطيع لإقناع مقاتليه بضرورة التماسك والصمود والدفاع عن القاعدة التي عاشوا فيها لسنوات، لكنه لم ينجح، إذ انشق المئات منهم، بينما هرب آخرون، وبحلول المساء اضطر عودة لمغادرة المكان بقافلة من السيارات التي حملت بعض السلاح مع من تبقى من جنوده الذين لم يتجاوز تعدادهم 50 شخصا في اتجاه حلب حيث ترابط بعض قواته".
وفي محاولة أخيرة لرأب الصدع، أرسل عودة مساعده أبو عبد الله الحمصي للتفاوض مع قيادة جبهة النصرة، وعرض التخلي نهائياً عن جبهة ثوار سوريا، إلا أن مفاوضيه تلقوا اتصالاً أمرهم باعتقال الرجل وإحالته للمحكمة الشرعية.
وكما حصل في معقل جمال معروف في دير سنبل، غنمت النصرة العشرات من الدبابات والمدرعات التي كانت حركة "حزم" غنمتها بدورها من الجيش الحكومي، بالإضافة إلى كميات كبيرة من الذخيرة على اختلاف أنواعها.
ويقول المقاتل المنشق لبي بي سي إن زعيم الحركة يهدد قادة كتائب المعارضة حالياً بأنه سيضطر لسحب قواته من الجبهات في مدينة حلب للتصدي لهجوم جبهة النصرة، وهو ما سيؤدي إلى منح قوات النظام فرصة كبيرة لإحكام سيطرتها على ما تبقى من أحياء المدينة التي لا تزال بيد المعارضة.
مقدمات الانفجار
التطورات التي شهدها ريف إدلب خلال الأسبوع الماضي لم تكن وليدة اللحظة، إذ إن العلاقة بين جبهة النصرة وغيرها من الفصائل الجهادية من جهة، ومن يوصفون بالمعتدلين من جهة أخرى، كانت انحدرت بشكل كبير خلال الأشهر القليلة الماضية.
ويقول أحد قادة حزم لبي بي سي إن "القرار بمهاجمتنا اتخذ يوم 23 سبتمبر/أيلول، فور استهداف طائرات التحالف لمقار جبهة النصرة في ريف إدلب".
ويضيف الرجل - الذي رفض أن يكشف عن اسمه - أن "النصرة تتهم حزم بتسريب معلومات أمنية عن تحركاتهم ومواقعهم للغرب".
وعلى الرغم من العلاقة الوثيقة بين "حزم" والولايات المتحدة، فقد أصدر قادة الحركة بياناً انتقد بشدة الغارات الأمريكية التي استهدفت مواقع جبهة النصرة.
ويقول القيادي في الحركة: "النتيجة الوحيدة التي حصدناها من البيان كانت انقطاع الاتصال بالوسيط الامريكي نهائياً"، ويؤكد أن البيان فشل في إقناع النصرة بأننا لا نعمل كجواسيس للولايات المتحدة، وأدى لرفض واشنطن للتعامل معنا مجدداً.
ولا يزال الرجل غير قادر على فهم أو تبرير قرار الولايات المتحدة بتوجيه ضربات ضد جبهة النصرة بدون التنسيق مع المجموعات المسلحة المرتبطة بالغرب، ما أدى إلى وضع هذه التنظيمات في مواجهة محتمة مع الجهاديين.
لكن الأمر، حتى بالنسبة للمجموعات المسلحة المعتدلة التي لم تستنكر ضربات التحالف التي استهدفت النصرة، بدا مماثلاً لطريقة تعامل واشنطن.
والتزم جمال معروف - الذي كان أعلن الحرب على تنظيم "الدولة الإسلامية" حتى قبل بدء التحالف بقصف مواقع التنظيم في سوريا - الصمت إزاء استهداف النصرة، ما فسر على أنه قبول بها.
كان معروف يمثل أحد أهم حلفاء واشنطن في المعارضة السورية المسلحة، لكن هذا لم يسهم في إنقاذ مجموعته من الانهيار المدوي أمام ضربات جبهة النصرة.
ويتهم معروف النصرة بالتنسيق مع تنظيم "الدولة الإسلامية" في حربها على "جبهة ثوار سوريا"، على الرغم من الصراع الدامي بين النصرة والدولة.
ورغم عدم تأكد هذه المعلومات بشكل مستقل، فإن المرصد السوري لحقوق الإنسان تحدث عن دعم مقاتلي تنظيم "الدولة الإسلامية" لجبهة النصرة في الهجوم الذي استهدف الكتائب المعتدلة.
تحالف الرعب
وبغض النظر عن صحة هذا الأمر، وباستثناء المناطق التي لا تزال تحت سيطرة النظام، تظهر خارطة سوريا أن معظم أنحاء البلاد باتت تدار من قبل تنظيمات جهادية.
ويبدو أن هزيمة كل من "جبهة ثوار سوريا"، وحركة "حزم"، ستجعل من الصعوبة إيجاد التحالف لأي مجموعات معتدلة يفترض أن تدرب قبل البدء، في المرحلة الثانية من الحرب على التنظيمات المتشددة، في عمل عسكري على الأرض.
وتشير التقارير الأخيرة من شمالي سوريا إلى أن جبهة النصرة وحلفاءها يحشدون المزيد من المقاتلين على مقربة من الحدود مع تركيا، حيث لا يزال ثمة وجود لبعض المجموعات المعتدلة الصغيرة كالفرقة 13 ومجموعة نور الدين زنكي.
ويرى خبراء تحدثت إليهم بي بي سي أن السيناريو الأسوأ يتمثل اليوم في استكمال النصرة حربها على هذه التنظيمات حتى القضاء عليها نهائياً، لكن الكابوس الأسوأ - بعد كل ذلك - هو أن تعلن جبهة النصرة قيام إمارة في هذه المناطق بالتنسيق مع تنظيم "الدولة الإسلامية".