تحرير هوغو شافيز على الأحد، 29 آذار/مارس 2009
فئة: الشرق الأوسط

كارثة

 أمة تتآكل أمامنا مادياً ومعنوياً،
ونحن لاهون او ساكتون
 3يونيو 2003

 إذا ما ألقى المرء نظرة فاحصة على المشهد العربي. فسوف يروعه لأول وهلة ما تقع عليه عيناه، إذ يرى أمامه أمة تذوي وتتآكل مادياً ومعنوياً، على نحو غير مسبوق. وتلك كارثة لا ريب، أما الكارثة الأكبر فإن ذلك يحدث أمامنا ونحن لاهون او ساكتون
(1
استفزني ما قرأته ذات صباح للكاتب الاميركي توماس فريدمان من أنه بعد احتلال العراق “بات لدينا الآن الولاية رقم 51 ذات ال 23 مليون نسمة، وقد تبنينا للتوّ طفلا يدعى بغداد” (الشرق الاوسط 5/5). ولا أعرف إن كان صاحبنا هذا قال ما قاله عن استعلاء او عن جهل، او عن الاثنين معاً. فهذه “الولاية” الجديدة التي أدعى دخولها في العصمة الاميركية، وذلك الطفل الذي تبنته الولايات المتحدة في آخر الزمان، يمثلان عناوين عريضة في سجل الحضارة الانسانية. حتى كانت بغداد عاصمة الدنيا قبل عشرة قرون من ميلاد الولايات المتحدة ذاتها، التي لم تكن شيئا مذكورا قبل 250 عاما. 

الاسلوب الذي تحدّث به المعلق الاميركي يعكس نظرة وطريقة تفكير تيار المتطرفين النافذ في السياسة والادارة الاميركية. وهو تيار لا يقيم للعرب وزنا ويتعامل معهم باستعلاء وازدراء شديدين، معتبرا ان ما يعنيه في المنطقة أمران هما النفط واسرائيل. وهو ما عبر عنه صراحة الرئيس الاسبق ريتشارد نيكسون في كتابه “انتهزوا الفرصة”. 

هذا التيار يعتبر اسرائيل حليفا وشريكا، بينما تعامله مع العالم العربي تحكمه في أحسن فروضه رؤية فوقية وأبوية، تمارس الوصاية والتأديب، ولا تقبل منه سوى الركوع والانصياع. وهو ما تجلّى في إصدار الكونغرس قانوني “سلام السودان”، و”حرية العراق”، وتبنّى بعض اعضائه مشروعا ثالثا ل “محاسبة سوريا”، في حين وقّع اكثر من 400 عضو مذكرة طالبت الرئيس بوش بعدم “الضغط” مجرد الضغط على اسرائيل لكي تقبل “خريطة الطريق”. 

هو ذاته التيار الذي ألقى بكل ثقله لغزو العراق بحجة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل (التي فشلت الادارة الاميركية في إثبات وجودها)، في حين غضّ الطرف عن اسرائيل التي تملك سلاحا غير تقليدي يفوق بقوته الفتاكة اكثر من سبعة اضعاف السلاح الذي لدى العرب (يديعوت احرونوت 15/4/2003). 

العالم العربي عندهم بقعة جغرافية، او مكان خارج التاريخ. أما المكانة فهي حظ اسرائيل، التي يعتبرونها في قلب التاريخ وشريكا في صناعته. 

مفترون وظلمة هم لا ريب، ومتآمرون ما في ذلك شك. لكن العرب ليسوا مظلومين بالمطلق، ولا كل الذي أصابنا كان بفعل المؤامرة. وإذ لا ينكر أنهم بذلوا الكثير لتوهين العرب وإخضاعهم، إلا أننا يجب ان نملك شجاعة الاعتراف بأن بعض الوهن من جانبنا كان تفريطاً منا، وليس كل ما أصابنا كان رغماً عنا ومفروضاً علينا. وإذا كانوا قد أرادوا لنا ان نبقى في حدود الجغرافيا، ونخرج من التاريخ، فلا ينبغي ان ننسى أننا حررنا بأنفسنا في مجالات عدة شهادة الاستقالة من الاثنين! 
  (2)
يوم السبت قبل الماضي (24/5) نشرت صحيفة “أخبار اليوم” مقالاً احتل كل مساحة الصفحة الاولى حول التعليم في مصر، كتبه رئيس تحريرها الاستاذ ابراهيم سعده، تحت عنوان “اعترافات د. حسين كامل بهاء الدين”. وتصدرت المقال صورة رسمت للوزير لخصت المقال. حيث ظهرت خلفه لافتة كتبت عليها كلمة “التعليم”، ووقف هو ممسكا بشهادة بيّنت درجات الامتحان، التي لم تكن سوى صفر كبير. ورغم ان المقال كان تصويرا لمشهد اعتراف تخيّله الكاتب. الا ان برنامجا تليفزيونيا بثته قناة “دريم” في اليوم التالي أجرى استفتاء حول مضمونه. فأكد 96% من المشاهدين صحة ما أورده من معلومات، وبالتالي عدالة العلامة التي حصل عليها الوزير! 

سؤالان تبادرا الى ذهني حين طالعت المقال، الاول هو: لو ان الاستاذ سعدة واصل الكتابة عن الأنشطة والمجالات الاخرى، فما هي يا ترى العلامة التي يمكن ان يحصل عليها كل وزير؟! أما السؤال الثاني فهو: هل هذه العلامة من نصيب وزير التعليم المصري واحدة، ام ان الكارثة اكبر والبلوى أعمّ، والمشكلة عربية وليست مصرية فقط؟ 

لن أخوض في إجابة السؤال الاول، لأسباب عدة أحدها ان ذلك قد يجرّنا الى حديث مطوّل عن الشأن الداخلي المصري، وذلك له مجال آخر. أما السؤال الثاني فهو أقرب الى السياق الذي نحن بصدده. 

مرجعي في الإجابة على السؤال هو ذلك الكتاب المهمّ الذي صدر في القاهرة قبل أشهر قليلة بعنوان “التعليم العلمي والتكنولوجي في إسرائيل” للدكتورة صفا عبد العال. وهو أحدث شهادة عربية تضمّنت عرضا لما حققته إسرائيل في ذلك المجال، مع إشارات مقارنة لأوضاع العالم العربي، الأمر الذي يجيب ضمناً على السؤال: كيف يسعون لاستيفاء عناصر البقاء في التاريخ، وكيف تقاعس العرب حتى هيّأوا لأنفسهم اسباب البقاء خارج التاريخ. 

من المعلومات التي اوردها الكتاب ما يلي: 

- قبل ان تقوم دولة اسرائيل على ارض فلسطين في عام 1948، أقام الصهاينة مؤسسات وبرامج التعليم والبحث والتطوير التكنولوجي فأسسوا جمعية الثقافة والعلم سنة 1819م والجامعة العبرية بالقدس (عام 1918) ومعهد التخنيون (الهندسة التطبيقية) عام 1924، ومعهد وايزمان للعلوم عام 1925. 

- تخصص اسرائيل للبحث والتطوير حوالى 2,3% من دخلها القومي، وهي من أعلى النسب في العالم، وتبلغ تكلفة الفرد في سن التعليم حوالى 2500 دولار في السنة، في حين انها لم تتجاوز في المتوسط 350 دولارا فقط في العالم العربي (لا تزيد التكلفة عن 1300 دولار في الدول الخليجية النفطية). 

- في عام 1995 نشر العلماء الاسرائيليون عشرة آلاف و206 أبحاث، في حين بلغ اجمالي البحوث المنشورة للباحثين والعلماء العرب في العام ذاته، 6665 بحثا. وبذلك يكون ما نشرته اسرائيل حوالى ضعف ما نشره العالم العربي بأسره. كما ان ما أنجزته الجامعة العبرية وحدها يفوق ما أنجزته الجامعات العربية كلها. 

- في عام 1977 سجلت البلدان العربية 188 علامة تجارية لبراءات الاختراع (توزعت على اربع دول هي المغرب وسوريا والجزائر والسعودية) بينما وصل عدد البراءات المسجلة في اسرائيل 1266 علامة. 

- في الحقبة الممتدة من اوائل الثمانينات حتى اوائل التسعينات حققت اسرائيل قفزتها التكنولوجية في القطاعات المرئية والعسكرية. وتركزت تلك القفزة في ثلاثة مجالات رئيسية هي، تكنولوجيا المعلومات والالكترونات الدقيقة (منتجات ذلك القطاع مثلت 30% من جملة الصادرات الصناعية المصدرة من اسرائيل عام 96، وهي نسبة أعلى من الدول الصناعية السبع) وتكنولوجيا صناعة الفضاء وتكنولوجيا الصناعات العسكرية. 
  (3)
 لعلنا لسنا بحاجة لأن نقف طويلا امام اجابة السؤال: لماذا يذوي العالم العربي ويتآكل، وإنما الذي يهمنا في السياق الذي نحن بصدده هو كيف؟ 

قلت في البداية إن التآكل حاصل على الصعيدين المادي والمعنوي. وإذا أردت ان تتحقق مما هو مادي، فما عليك إلا ان تبسط الخريطة امامك وتطوف بعينيك ارجاء الوطن العربي من أقصاه الى أقصاه، وأحسب أنك لن تخطئ في ملاحظة ما يلي: 

- ان الاحتلال الاسرائيلي جاثم في فلسطين، ولا يزال يساوم الفلسطينيين ويذلهم لكي يسمح لهم بإقامة دولة هزيلة على 6% من مساحة وطنهم التاريخي. 

- ان العراق انتزع من الرقعة العربية وأصبح تحت الاحتلال الاميركي البريطاني المباشر، ويراد له ان يخاصم محيطه العربي وينفتح على اسرائيل، ويلحق بالمركبة الاميركية على النحو الذي رأيت قبل قليل، ثم ان محاولات تفتيته جارية على قدم وساق على الأقل فيما بين العرب والأكراد وبين السنة والشيعة. 

- اسرائيل تتحدث عن حلف بغداد جديد يضمّ معها الاردن والعراق. 

- السودان يلوي ذراعه لكي يدخل بالتدريج في بيت الطاعة الاميركي، عبر دعم واشنطن لرجل الغرب ومجلس الكنائس العالمي جون قرنق، الذي يهيئ الجنوب للانفصال، مطالبا بعملة مستقلة وبنك مركزي خاص، وبنصف مقاعد الحكم في الخرطوم، وثمة قانون اميركي يعاقب حكومة الخرطوم إذا لم تستجب لما يريد! 

- في الخليج أصوات عالية تدعو الى الطلاق من العروبة، ولهذه الاصوات تأثيرها على توتير علاقة أغلب دول الخليج مع الجامعة العربية. حتى امتنعت بعض تلك الدول عن دفع حصتها في الالتزامات المالية للجامعة. 

- ليبيا جمّدت عروبتها (الليبيون يقولون إنهم أجّلوا فقط انسحابهم من الجامعة العربية)، والتحقت بالمحيط الافريقي، والعقيد القذافي أعلن في تونس (في 23/5) سحب رهانه على القومية العربية وتعلّقه بالأمل الافريقي، ودعا “إخوانه العرب” للالتحاق به. 

- الجزائر التي دفعت اكثر من مليون شهيد ثمنا للدفاع عن هويتها واستقلالها بدأت تنتكس وتتآكل من الداخل. فقد بدأت تنسحب بشكل تدريجي من عروبتها، التي أصبحت مسبَّة يرمي بها البعض، حيث باتوا يتهمون بأنهم “بعثيون” وتلك الآن جريمة لا تغتفر وهي تعاني من تعاظم دور اللوبي الفرانكوفوني، ومن استقواء متطرفي البربر الذين لم يعودوا يخفون رفضهم للعروبية والاسلام معا. وبعدما كانت العربية لغة رسمية للدولة، أصبحت البربرية “ضرّة” لها كما قيل بحق، وصارت الجزائر تتكلم بلسانين. وفي كل الاحوال فقد توقفت مسيرة التعريب، بعدما وجّه اليها الفرانكوفونيون ضربة قاضية. 

- موريتانيا بعثت برسالة الانسلاخ النسبي حينما اعلنت فجأة وبغير مقدمات ودون اي مبرر عن اقامة علاقات دبلوماسية مع اسرائيل، وأصبحت الدولة الوحيدة في المغرب “العربي” التي ذهبت الى ذلك المدى، واتخذت تلك الخطوة رسميا. 

فضلا عن كل ما سبق، فقد انتشرت القواعد الاميركية في ارجاء العالم العربي على نحو لم تعرفه في تاريخها، وسط قبول مذهل من جانب بعض النخب العربية، وهو أمر حافل بالدلالات، التي من بينها كون تلك القواعد من تجليات التآكل المادي (باعتبار ان القاعدة تعدّ ارضا اميركية) ناهيك عما تدل عليه من تآكل سياسي. 

لا نستطيع ان نسمّى ما سبق انحسارا او انكسارا، وإنما هو تآكل بالمعنى المادي للكلمة، بعضه سلخ والبعض الآخر انسلاخ، الامر الذي يضيف الى الاستقالة من التاريخ التي أشرنا اليها، استقالة تدريجية من الجغرافيا ! 
  (4)
هذا التآكل المادي استصحب تآكلا آخر بالغ الخطورة على الصعيد المعنوي، كنت قد وصفته في مقال سابق (نشر في 6/5) بأنه أم “الكوارث”. وعنيت به تلك الهجمة الشرسة التي استهدفت تقويض كل ثوابت الأمة وقيمها. والتبشير بالهزيمة والانبطاح امام الولايات المتحدة واسرائيل، بدعوى “الواقعية” والتعامل مع مستجدات العصر ومتغيرات خرائط المنطقة. 

ما يُدهشني في هذا الجانب من المشهد ليس مجرد العداء لثوابت الأمة وقيمها النبيلة، فأولئك الأعداء كانوا موجودين على الدوام، ولكن مبعث الدهشة هو تلك الجرأة التي صاروا يتمتعون بها. بحيث أصبحوا يجهرون بمواقفهم الداعية لاقتلاع الثوابت وإهدار القيم على صفحات الصحف ومن خلال قنوات البث التلفزيوني والإذاعي، الأمر الذي أضفى على خطابهم شرعية نسبية، وجعل من ارتكاب الفاحشة السياسية امرا عاديا تألفه الأذن والعين. 

في النموذج العراقي وجدنا شخصيات عراقية استجلبت من الخارج على الدبابات الاميركية، لكي تحتل مراكز القيادة في العراق “المحرّر”. وأفاضت وسائل الاعلام في تقديم تلك الشخصيات، التي عرفنا ان بينها من أعدّتهم وربّتهم المخابرات المركزية الاميركية، كما عرفنا ان هناك آخرين رعتهم وموّلتهم الخارجية الاميركية. وأمثال هؤلاء جيء بهم في افغانستان بعد “تحريرها” من حكم طالبان. وفي الحالة الفلسطينية قرأنا ان ثمة قيادات احتلت مواقعها لأن الاميركيين يفضّلونها، وثمة قيادات اخرى في حكومة السلطة “الوطنية” سلّم حقائب بذاتها بناء على رغبة إسرائيلية. وبمضي الوقت ألفت أسماعنا مثل هذه الاخبار المذهلة، وكأنها أشياء عادية، لا غضاضة فيها ولا غبار عليها. الامر الذي أضفى على العملاء شرعية نسبية، وجعل الولاء لغير الوطن قيمة ترفع من شأن المرء وترشحه لمواقع الصدارة والقيادة. 

وإذ انقلبت المعايير على ذلك النحو المشين، فإن ذلك أنعش دوائر العملاء والمهزومين الذين لم يكفّوا عن هجاء العرب والعروبة وازدراء حلم الأمة في الوحدة والحطّ من شأن مناضليها الذين وصفوا بأنهم “حربجية” وتحقير العمل الاستشهادي ووصفه بأنه انتحاري (الأميركيون أعطوا تعليمات أخيرة باعتباره قتلاً، ولن نعدم استجابة سريعة من جانب المتعاونين في إعلامنا تصف الشهداء بأنهم قتلة!) أما الجهاد فقد صار في خطابهم عملا مشينا يتعارض مع قيم ثقافة العالم الحر. وأما إسرائيل فلم تعد غاصبة ولا محتلة، وإنما غدت قوة اقليمية مهمة يفترض احتضانها ومن الضروري إدماجها في “النظام الاقليمي” ومن الطبيعي والامر كذلك ان تصبح مقاومة احتلالها (المزعوم؟!) عملا غير حضاري، يتعين البراءة منه والاقلاع عنه، حتى لا تعكّر صفو السلام، ونصبح مؤهلين للانخراط في “ثقافة العالم الجديد”!
اترك تعليقاتك